كشف لجوء الحكومة إلى الاستعانة بشركات ومستشارين دوليين وتحديداً من الولايات المتحدة، العقدة التي تسيطر على الكثير من ذوي الاختصاص في لبنان تجاه المؤسسات الغربية، وما يزيد الأمر غرابة، الإصرار على طلب المساعدة من صندوق النقد الدولي لتقديم النصح للبنان حول كيفية التعامل مع أزمة استحقاقات الدين والفوائد.. في وقت من المعروف انّ صندوق النقد هو مؤسسة غربية تهيمن على قرارها الإدارة الأميركية التي تستخدم هذه المؤسسة وسيلة لاستدراج الدول التي تقع تحت عبء الدين لأجل جعلها تقع في شرك الاستدانة من الصندوق لقاء شروط قاسية تقود إلى هيمنته ووضع يده على النظام المالي لهذه الدول.. ايّ استخدام القروض كفخ لفرض السيطرة على اقتصاديات الدول والتحكم بأنظمتها المالية..
من الطبيعي والحال هذه ان لا يقدّم الصندوق المساعدة المجانية التي تمكّن لبنان من الخروج من أزمته المالية، وأن يربط اي مساعدة حقيقية بشروط باتت معروفة وهي المزيد من خصخصة قطاعات الدولة وتقليص حجم الدولة وفرض الضرائب غير المباشرة والتقشف في الإنفاق الاجتماعي والاقتصادي، وهو ما قاد إلى اندلاع توترات وانتفاضات اجتماعية، في الأردن والسودان والمغرب، وتونس إلخ…
يحصل ذلك فيما يوجد في لبنان نخبة من الخبراء الاقتصاديين والماليين الذين يعملون كمستشارين في أعرق المؤسسات المالية الدولية والعربية، واستعانت بهم دول عدة لتنظيم ماليتها، وفي طليعة هؤلاء الخبراء الدكتور جورج قرم وزير المالية السابق، تخرّج من جامعة باريس في القانون الدستوري والعلوم الاقتصادية، وخريج معهد الدراسات السياسية بباريس ـ فرع المالية العامة. بدأ حياته المهنية عام 1963 كخبير اقتصادي في وزارة التصميم العام ثم في وزارة المالية، وعمل كخبير مالي في باريس وبيروت والجزائر، ثم كمستشار لدى كبريات المنظمات الدولية والاتحاد الأوروبي والمصارف المركزية العربية ابتداءً من عام 1982. ثم تعينه وزيراً للمالية في نهاية 1998 في حكومة الدكتور سليم الحص حيث اعتمد برنامجاً للإصلاح المالي، وقام بدفع متأخرات الدولة للقطاع الخاص، كما نجح في إعادة التوازن إلى ميزان المدفوعات وتخفيض مستوى الفوائد، وقام أيضاً بوضع قانون الضريبة على القيمة المضافة. عاد بعد ذلك في بداية عام 2001 إلى العمل الاستشاري، وقام بالتدريس الجامعي منذ عام 1973 وبشكل خاص في الجامعة اللبنانية واليسوعية.
الغاية من هذه اللمحة السريعة عن الدكتور قرم، ان يعرف من في الحكومة وخارجها بأنّ هناك خبيراً لبنانياً مهماً عليكم الاستعانة به والاستفادة من خبراته الكبيرة في مجال تقديم الاقتراحات لعلاج الأزمات المالية.. ومن المؤكد ان المؤسسات العربية والدولية التي استفادت من خبراته تنظر باستغراب شديد إلى إقدام الحكومة على الاستعانة بخبراء من الخارج، ولديها خبير مثل الدكتور جورج قرم…
إذا كانت الحكومة لا تعرف انّ لديها خبير معروف عربياً ودولياً وطبعاً لبنانياً، فهذه مصيبة، واذا كانت تعرف فالمصيبة أكبر، وهو ما يدفع إلى التساؤل عن السبب، هل لأنّ الدكتور قرم لا يؤيد وصفات صندوق النقد الدولي التي طالما حذر من اعتمادها.. ام لأنه يدعو الى إحداث تغيير في النظام الضريبي في لبنان الذي يتسم بتكيّفه مع حاجات الاقتصاد الريعي. فهو اقتصاد يكافئ أصحاب الريوع والرساميل ويعفيهم من أيّ ضغط ضريبي، وينقل 90% من هذا الضغط إلى الفئات الشعبية من خلال الضرائب المباشرة وغير المباشرة. حيث يرى قرم بأننا «نعيش في ظلّ نظام ضريبي مجنون يحمّل الناس العبء الأكبر من تأمين إيرادات الدولة ليموّل كبار الأثرياء».
من هنا، إنّ أيّ برنامج لمواجهة الأزمة يجب أن ينطلق من النظام الضريبي، ووضع تصوّر لنظام بديل مع مجموعة من الإصلاحات المالية والاقتصادية التي تنقل لبنان من النظام الريعي إلى النظام الاقتصادي المرتكز على الإنتاج كمصدر لتنمية الثروة الحقيقية ووضع حدّ لاستمرار العجز في الميزان التجاري وميزان المدفوعات..
ليس من العيب تدارك الخطأ، فالحكومة التي تقترب من لحظة اتخاذ قرارها بشأن التوقف عن دفع استحقاقات الدين والفوائد، لا يضيرها أبداً الوقوف على رأي الدكتور جورج قرم والاستفادة من خبرته لمعالجة الأزمة البنيوية التي يعاني منها النظام الاقتصادي والمالي اللبناني نتيجة الإيغال في السياسات الريعية القاتلة للنمو الاقتصادي الحقيقي…