بعد اليوروبوند الواقع اللبناني إلى أين؟ هذا السؤال يطرحه الكثيرون والإجابات عليه تبدو حذرة وغير حاسمة باتجاه ما. حتى رئيس الحكومة الدكتور حسان دياب الذي يحمل ’’كرة النار‘‘ التي أورثته إياها الحكومات السابقة ونظام المحاصصة وعوائق الطائفية وظاهرة الفساد. حتى هو وإن كان واثقا بأنه سيمضي بالدولة إلى شاطئ الأمان يعترف بأنه مضطر إلى اتخاذ قرارات صعبة من شأنها أن تحمي الطبقات الفقيرة ومتوسطي الحال ولكنها موجعة وتتطلب التعاون وإزاحة ’’الأصفاد الطائفية‘‘.
في كل الأحوال الواقع اللبناني محكوم إلى حدود بعيدة بالمعادلة الأميركية ’’لا ازدهار ولا انهيار‘‘. وهذا الأمر يُدركه جيدا الدكتور حسان دياب في إجراءاته الوقائية لحماية الوضع اللبناني فيبدو مصغيا لكل رأي صائب وإلى تحيّن اللحظة المؤاتية لاتخاذ الخطوة المناسبة. فمن ’’المصائب‘‘ التي يعاني منها رئيس الحكومة أن شركاءه في السلطة لا يحتكمون في مقارباتهم إلى ’’رؤية واحدة‘‘ في الكثير من الملفات المطروحة وهذا ما يثني الدكتور دياب عن إعلان ما يريد حتى يستطيع إنضاج الأمر وتسويق تصويره. ولعل هذه الحقيقة هي التي تفسر حرصه على قلة التصريح واختصار الكلام استنادا إلى نظرية الفيلسوف العربي النفّـري ’’كلما اتسعت الرؤية ضاقت العبارة‘‘.
لا شك أن فريق المعارضة يطمح إلى أن يرى حسان دياب خارج الحكومة وأن يدفعه إلى الإستقالة أو الطريق المسدود مستندا إلى أزمة الوضع الإقتصادي–المالي–النقدي وإلى غياب ’’الرؤية المشتركة‘‘ لدى الشركاء في الحكومة وإلى ’’الحراك الشعبي‘‘. لكن ثمة مؤشرات إيجابية تخدم حسان دياب. منها أن الزعيم الدرزي وليد جنبلاط وصل إلى نتيجة مفادها أنه لا بد من دعم الحكومة الحالية تلافيا للفراغ الذي يشكّل مدخلا للسقوط في المجهول. وكان وليد بك في موقف سابق قد رأى أنه لا بد من ’’وفاق وطني‘‘ في موضوع الكورونا. هذا التصوّر لوليد بك من الفريق المعارض كان قد سبقه موقف للسيد حسن نصرالله يدعو إلى معالجة الموضوع النقدي–الإقتصادي–المالي بعيدا عن الإشتباكات السياسية بين الموالاة والمعارضة. ومعنى هذا الأمر أن هناك تلاقيا بين مرجعين أساسيين من الموالاة والمعارضة يمكن أن يؤسس إلى معالجة التناقضات الثانوية. فالزعيم الصيني ماوتسي تونغ يقول ’’دع مئة زهرة تتفتح‘‘. ونحن هنا إزاء زهرتين تتفتحان من كل من السيد حسن نصرالله ووليد بك جنبلاط. والإثنان لهما تأثير كبير في المكانين اللذين ينتميان إليهما. هذه ناحية. والناحية الثانية أنه بعد معالجة اليوروبوند يجد اللبنانيون أنفسهم أمام رئيس حكومة مبادر وفي يده أربعمئة ملف كان قد كلف الوزراء لمعالجتها. كما أنه خلافا لما يتردد الأبواب الخليجية مفتوحة أمام حسان دياب والمملكة العربية السعودية ستكون أول دولة خليجية يزورها وترحب به كما سيلتقي قريبا الرئيس الفرنسي ماكرون لتحريك وتفعيل ’’سيدرز‘‘ في ما يخص المساعدات المالية للبنان. وفي المعلومات أن الرئيس السابق للحكومة سعد الحريري شخصيا لا يضع أية عراقيل في الداخل أمام الدكتور حسان دياب ولا في الخارج سواء في المملكة العربية السعودية أو في فرنسا وإن كان لا يمنحه التأييد الكامل خلافا للبعض. فالقاسم المشترك بين الإثنين هو الإعتدال.
وفي الأيام والأسابيع المقبلة بعد أن يكون قد انتهى من ترسيم الأولويات استنادا للملفات التي كلف بها الوزراء سيكون في أساس حركته كيف يطمئن الناس إلى المستقبل وإلى كيفية التواصل الجدي مع ’’الحراك الشعبي‘‘ وتلبية ما يمكن من مطالبه التي يعتبرها محقة. والأمر الإيجابي هنا هو أن ’’جهات فاعلة‘‘ في ’’الحراك الشعبي‘‘ هي في صدد ’’مراجعة شاملة‘‘ لما طرحته وإلى معالجة الطرق المسدودة أمام ’’الحراك‘‘ وإلى إدراك أنها ينبغي أن تحاور الدكتور حسان دياب وأن تتجاوب مع ما هو إيجابي في سياساته وأن تقدم ملاحظاتها على ما تعترض عليه. فالواضح أن البعض في ’’الحراك الشعبي‘‘ بدأ يكتشف أن ’’وباء‘‘ أخذ في الإنتشار في الحراك وهو ’’وباء‘‘ المموّل المتحكّم ما يفقد الناشطين استقلاليتهم. وهذا ’’الوباء لا مفر منه‘‘ على ما يقول أحد الناشطين. يبدأ ’’بريئا‘‘ وينتهي ’’متسلطا‘‘. ما يعني أن هناك فرصة أمام الدكتور حسان دياب لايجاد العلاج المناسب (الدواء) لكسب شرعية ’’الحراك الشعبي‘‘. كما أنه قادر على تسويق سياسة إعلامية وسياساته المالية والنقدية والإقتصادية والإجتماعية عبر الإعلام الإلكتروني الذي أصبح جاهزا لتأييده ومساندته بعد أن لمس أن الفكرة الأساسية التي تحكم تصوّر رئيس الحكومة بالنسبة للمستقبل هي كيف يجعل من الإعلام اللبناني ’’منارة‘‘ للمنطقة ولبنان. والواقع أن هناك مداخل كثيرة لتحقيق العناوين الأساسية للحراك الشعبي. فالدكتور حسان دياب يؤيد ويساند فكرة أن تعطي المرأة اللبنانية المتزوجة من أجنبي الجنسية اللبنانية لأبنائها أسوة بالرجل. وهو شخصيا يعالج اعتراضات البعض لأسباب ديموغرافية. كما بإمكانه أن يعلن موقفه الإيجابي من قضية 60 ألف مذكرة توقيف غالبيتها لأسباب تافهة وغير جرمية وبذلك يكسب على الأقل 60 ألف عائلة في البقاع وعكار وطرابلس بحكم التضامن العائلي مع الموقوفين. كما بإمكانه تحريك الدورة الإقتصادية في البقاع الشمالي عبر إبداء رأي إيجابي بتشريع زراعة الحشيش لأغراض طبية... هذا وكان الدكتور حسان دياب قد أشار بأنه يتبنى مبدأ الكفاءة في تعيين 60 مدير عام جديد في إدارة الدولة رغم التعقيدات الطائفية... وأحد الأوراق الأساسية التي بإمكان رئيس الحكومة توظيفها مع الحراك الشعبي هي عنصر الشباب والمرأة. وهنا أمور كثيرة قابلة للنقاش: تقريب المسافة بين الرجل والمرأة بمبدأ ’’الكوتا النسائية‘‘ في مجلس النواب ووظائف الفئة الأولى. تخفيض سن الإقتراع إلى 18 سنة... قانون زواج مدني اختياري... وغير ذلك...
هذه ’’مداخل‘‘ إلى كسب ثقة الشارع وإلى إحياء فكرة الدولة الحقيقية والمبادرة يملكها الدكتور حسان دياب ولا اعتراض عليها لدى الحراك الشعبي. قد يأتي الإعتراض من مكان آخر. وهو يعرفه جيدا.