بعد أحداث 17 تشرين صار يصعب الحديث عن الفكر الإصلاحي أو عن نيات تصحيحيّة من قبل اي زعيم سياسي، فهناك الكثير ممن يتحملون المسؤولية الكاملة عما جرى من رجالات دولة وشركاء سياسيين بدرجات ودرجات. وعلى هذا الاساس صارت مسألة تبرير بعض المرجعيات السياسية وحدها مدعاة استغراب.
بالمقابل، ليس وارداً الحديث عن خطوة قضائية «انتحارية» بالمعنى السياسي الذي يعرّض حياة القاضي المهنيّة للخطر بدون الحديث عن دعم سياسي يحيط بهذا القرار. هكذا اعتاد اللبنانيون حكماً, الا اذا كانت منهجية العمل العام قد تغيرت بهذا الشكل السريع فتكون وحدها واحدة من إنجازات ثورة 17 تشرين، كما يحب المنتفضون تسميتها فماذا جرى مع المدعي العام المالي القاضي علي إبراهيم؟
أولاً السؤال الأساسي المحيط بهذا الخيار يتوجّه نحو الرئيس بري، لأنه أتى بعد أن كان قد أعلن الحرب في الأربعاء النيابي على المصارف ليصدر القرار الخميس ولا مكان للصدف في الحياة السياسية اللبنانية، لكن المسألة لا تتعلّق بطلب هذا القرار، بل بطلب «المساندة» فبري وحسب مصادر البناء المقرّبة من عين التينة والذي يؤكد وقوفه الى جانب الناس يؤكد دعمه لأي إجراء يمكن ان يحد من جشع اي جهة نالت من حقوقهم أولاً وقوّضت الدولة ثانياً وجعلتها رهينة لحسابات وحسابات. وتؤكد المصادر أن «ما جرى مساء الخميس بقرار تجميد أصول بعض المصارف لم يكن مبرمجاً لا بين المدّعي العام المالي القاضي علي إبراهيم ولا المدعي العام التمييزي غسان عويدات أي أنه ليس منسقاً بين بري والحريري كما يحاول البعض الإشاعة، وأن الأمر لم يكن «تمثيلية» على الإطلاق بل كان قراراً جدياً لكن «القيامة قامت» داخلياً وخارجياً، حسب المصدر. وهذا إن دل على شيء فهو أن قرار التراجع أتى نزولاً عند كل هذه الحسابات والتحديات والسقوف العالية التي رفعت بالأمس.
المشهد الاقتصادي بكل تشعباته والارتهان المالي ومعه السياسي وحده مَن يحكم الساحة اليوم. وبانتظار القرارت غير الشعبوية التي تتحدّث عنها الخطة الإنقاذية لرئيس الحكومة، فإن الرسائل التي وصلت للخارج وصلت من العيار الثقيل ليس أقلها الموجه للولايات المتحدة الأميركية والتقاطع مع مبدأ الامن السياسي والامن الاقتصادي الذي صار خاضعاً لحسابات المحاور ايضاً. فاليوم وبنظرة سريعة على شكل المشهد، فإن مجلس النواب الذي يمثل أغلبية حليفة لحزب الله وقبله رئاسة الجمهورية الحليفة له، واليوم رئاسة الحكومة المهادنة معه، وبالحد الأقصى التي لا تعتبر الموقف من حزب الله لا محلياً ولا دولياً خاضعاً لحساب سياسي يأخذ نحو حساب النظرة الى خسارة الأميركيين كرسي مجلس الوزراء بعد أن كان عنواناً لتحالف يمثله الرئيس الحريري، فإن خسارة المزيد من الأوراق ومنها الورقة الاقتصادية هو خطر كبير بالعين الأميركية. فهل تستقر الأزمة عند هذا الحد كي لا تستكمل القوى التي تجرأت وللمرة الأولى على استهداف المصارف وهي حليفة أو مدعومة من حزب الله هذا الإجراء؟
وبالعودة للرئيس نبيه بري فأياً يكن سياق الدعم الذي قدّمه او لم يقدمه للمدعي العام المالي علي ابراهيم ولقرارته فإنه من المفيد قراءة المشهد من منظار اساسي وهو ان السلطة السياسية صارت أكثر تفهماً لمطالب الشارع وأكثر تحسباً لمخاطر اندلاع ثورة جديدة هي ثورة جياع، كما قال بري. وهو الذي بدا منذ لحظة إعلان الموقف في الأربعاء النيابي قد تخلى عن بعض المصالح مع المصارف والمصرفيين بدا مصطفاً لجانب الناس في هذه المعركة، حيث يطالبون بودائعهم. وهنا يمكن الحديث عن إنجاز مهم من إنجازات هذا الحراك الذي جعل من السياسيين قادرين على التحرك بهامش أوسع او بالحد الأدنى عدم ممانعة مثل هذه القرارات. وليس المطلوب هنا دراسة تأييدها من عدمه إنما كسر ما كان يسمّى محرمات صار بعد هذا الحراك طبيعياً.
لكن ربما أبعد من هذا الأمر أسئلة تأخذ نحو امكانية تطوير القرارات وتوجيهها نحو شركاء لطالما عاثوا فساداً في هذا البلد؛ هل من الممكن مثلاً تجميد اصول السياسيين الذين تشاركوا وحموا بعض الجهات اذا لم يكونوا قد تولوا شخصياً سرقة اموال الناس؟ أم أن الحساب هذا يخضع بدوره لمحميات إقليمية ودولية تجعل من هذا الخيار مستحيلاً، فإذا تم التسليم بمسألة الارتهان المالي للعملة الأميركية فإن هذا يحتم افضل العلاقات مع واشنطن وهو مصلحة للبنان، لكن هذه المصلحة قد تهتز لحظة تقرر بعض الجهات محاسبة من هم مصنفون في خانة الحليف الأميركي والأمر نفسه يتعلق بباقي المحاور والارتباطات.
على أي حال من الاحوال يسجل للرئيس بري الآتي من منظومة المرحلة التي عرفت بشراكات وشراكات انه خرج عنها في بعض سلوكه السياسي، وإذا كانت مسألة العلاقة مع الرئيس السابق سعد الحريري هي التي تصبغ المشهد، خصوصاً بعد تمسك بري الشديد به، فإن المعلومات تشير الى أن «هذه الملاطفة والأجواء بين الرجلين لم تعد موجودة كما السابق ولا شيء يعيق الانحياز للشعب بعد الآن بالنسبة لبري».