فيروس كورونا المستجد لا يشكل كارثة على الصعيد الصحي العالمي فقط، بل هو قد يكون مقدمة لتبدّل الكثير من المفاهيم التي كانت سائدة على مدى سنوات طويلة، لا سيما على مستوى العلاقات الدوليّة.
قد يكون من الضروري الانطلاق من أن كورونا أسقط معادلة القرية الكونيّة، حيث سارعت الدولة، خلال أيّام قليلة، إلى إغلاق حدودها بهدف حماية مواطنيها والمقيمين على أراضيها، بوجه الخطر الذي لا يميز بين عرق أو دين أو لون أو جنسية، متجاهلة كل التحوّلات التي قادت اليها الثورة في عالم الإتصالات والمواصلات.
بالتزامن، يمكن القول أن هذا الخطر قد يقود إلى تثبيت معادلة سقوط النظام العالمي الحالي، الذي تقوده الولايات المتحدة الأميركية، في ظل الصراع المحتدم على هويته بين واشنطن وبكين، حيث تصر الأولى على وصفه بالصيني، بينما لا تتردد الثانية في توجيه الاتهامات إلى الجيش الأميركي بالمسؤولية عن انتشاره.
وفي حين من المستبعد أن ينتهي هذا السجال بين القوتين العظميين في وقت قريب، من الطبيعي طرح بعض علامات الاستفهام حول تأثير هذه الأزمة الصحية على التحالفات بين الدول، خصوصا تلك التي كانت تشهد توترات سابقة، كتلك التي تجمع بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، لا سيما أن واشنطن كانت المبادرة إلى إغلاق حدودها مع بلدان القارة العجوز، مستثنية بريطانيا وايرلندا، الأمر الذي وضع في إطار الرسائل السياسية.
في المقابل، سعت بكين، بعد نجاحها في احتواء انتشار المرض على أراضيها، إلى مدّ يد العون إلى العالم، لا سيّما إلى إيطاليا التي تخرج فيه الأمور عن السيطرة يوما بعد آخر، في الوقت الذي كانت فيه المعلومات تتسرب عن سعي الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى الحصول على اللقاح، بصورة حصريّة، من شركة ألمانية.
بالتزامن مع ذلك، كان من الواضح أن التحالف السابق بين الصين وروسيا يزداد تماسكا على وقع الأزمة الراهنة، لكن ما يجب الالتفات إليه هو أنّ أساس التحولات الكبرى تأتي على وقع ما يحصل على المستوى الإقتصادي، ومن الثابت أنّ الأخير هو المتضرر الأول، حيث التوقعات ترجح أن يكون عنوان الأشهر المقبلة الإفلاسات الكبرى، لا سيما إذا ما طال أمد الأزمة.
في السياق نفسه، يمكن الحديث عن عودة مفهوم دولة الرعاية إلى الواجهة من جديد بقوّة، نظرا إلى كورونا دفع بالعديد من الدول، لا سيما الكبرى منها، بالذهاب إلى سياسات كان الكثيرون يتوقعون أنّ العودة إليها مستحيلة، إلا أن لهذا الفيروس كان الرأي المختلف فرضه عليها. انطلاقا مما تقدم، يمكن القول إن العالم ما بعد كورونا لن يكون كما كان قبله، والخطر الذي كان يتوقع البعض أن يدفع نحو تعزيز التعاون العالمي، في معركة التصدّي له والعمل على مكافحته، قد يفتح الباب أمام سيناريوهات لا تكون أقل خطورة، ربما تؤدّي إلى صدامات مباشرة بين القوى الكبرى.
في المحصّلة، نجح كورونا في تعطيل العالم بأسره، حيث لم يعد هناك من حديث لا يتعلّق بكيفيّة القضاء عليه أو الإستفادة من التحوّلات التي فرضها، والتي من المرجّح أن تزداد وتيرتها في المستقبل، سواء في مرحلة العمل على احتوائها، أو لاحقا في مرحلة السيطرة عليها بعد الوصول إلى اللقاح المنتظر.