تنشغل البشرية في البحث عن السبل الناجعة لمواجهة جائحة كورونا بانتظار نتائج
جهود مختبرات العالم البيولوجية للعثور على الترياق المضاد لهذا الوباء الذي بات يهدد حياة الإنسان على وجه البسيطة.
لن أدخل في مسببات أو منبع هذا الوباء، فبرغم إدلاء المختصين بعلم الأوبئة بدلوهم،
وأشبعونا بخبرات طبية ومخبرية مهمة لكنها لم تسجل حتى اللحظة أي انتصار على الداء بحد ذاته، فيما انصبت جهود الخبراء في هذا المجال على الطلب من الإنسان التشدد بالوقاية الذاتية فيما العالم يرزح تحت وطأة أزمات اقتصادية حادة أنتجت متغيرات جيوسياسية أرادتها الولايات
المتحدة الأميركية بهدف تعزيز النيوليبرالية المتوحشة التي أثبتت أنها أشد خطراً على حياة الإنسان والمجتمعات والدول أكثر بكثير من وباء كورونا بحد ذاته.
وفي مجال الحد من انتشار الوباء فإن دولاً لا تتبع نظام العولمة المالية والاقتصاد
الريعي السائد مفضلة الحفاظ على نظام الاقتصاد الإنتاجي الصناعي والتطور التكنولوجي أثبتت كفاءة عالية وسرعة لافتة نجحت من خلاله في مكافحة واحتواء انتشار كورونا، والصين مثالاً.
في الوقت الذي تُعتبر فيه النتائج الجيوسياسية لكورونا ثانوية مقارنة بالنتائج
على صعيد الصحة والسلامة، فإن نتائج المتغيرات الجيوسياسية الناجمة عن انكشاف قصور فاضح في قدرة دول العولمة في مواجهة آثار الوباء ستأخذ أهمية كبيرة على المدى الطويل، خاصة بالنسبة لوضع الإدارة الأميركية المترهل على الصعيدين الداخلي والدولي.
من الواضح أن واشنطن فشلت في استجابتها الأولية للوباء، فالمؤسسات الأميركية الرئيسية
من البيت الأبيض ووزارة الخارجية إلى وزارة الأمن الداخلي ومراكز السيطرة والوقاية من الأمراض قد هزت ثقة الناس بقدرة وكفاءة النظام الأميركي خصوصاً بعد تجاهل هذه الإدارة تقارير رفعها مكتب الأمن القومي الأميركي للبيت الأبيض تحذر من خطورة انتشار هذا الوباء على الداخل
الأميركي منذ شهر أيلول 2019.
وفي تأكيد على الفشل الأميركي نستشهد بالتصريحات والتغريدات الرسمية للمسؤولين
الأميركيين يتبين أنها زرعت الشكوك ونشرت عدم اليقين وسط عامة الناس وأن القطاعين العام والخاص في الإدارة الأميركية أثبتا أنهما غير مستعدَين لمواجهة الوباء بالمعدات الضرورية للفحص وحتى لما بعد الفحص.
وباء كورونا فجّر استياء على المستويين الداخلي والدولي من نزعات ترامب الفردية
ورغبته في العمل بمعزل عن المجتمع الدولي، في حين انكشفت واشنطن أمام عجزها في قيادة العالم نحو بر الأمان.
في الوقت الذي انضمت فيه روسيا وكوبا إلى جانب الصين في تقديم المساعدات إلى الدول
الموبوءة بكورونا رغم العقوبات المفروضة أميركياً على تلك الدول، نجد الولايات المتحدة تائهة ما بين السيطرة على الوباء على أراضيها وبين استثماره تجارياً لتحقيق الأرباح المادية في محاولة فاضحة للاستئثار بالترياق المنتظر وذلك لتحقيق المكاسب المادية وإخضاع العالم
لرغبات أميركا السياسية والاقتصادية وأمام هذه اللوحة نستطيع القول إن أميركا قد فقدت الثقة بتمكنها من إدارة أزمات العالم لأنها لم تعر حياة البشرية أي أهمية وتعتبرها سلعة خاضعة لنظام الربح والخسارة المادية.
إن وضع أميركا كقائدة للعالم خلال العقود السبعة الماضية بُني ليس على الثروة
والقوة فقط، بل أيضاً على الدعاية الهوليودية لجودة الحكم الأميركي والتحسب لمواجهة الأزمات والكوارث وإظهار الإمكانات في تزويد العالم بالديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان والقدرة على تأمين الاحتياجات اللازمة لمواجهة الأزمات الدولية في حين أن وباء كورونا اختبر العوامل
والقدرة الأميركية في لعب دور القيادة وحتى اليوم فشلت واشنطن في الاختبار.
مما لا شك فيه أن أداء أميركا مقارنة بأداء الصين تجاه الوباء يعتبر أداء فاشلاً
مملوءاً بالأخطاء حيث إن الصين تحركت بسرعة لتستفيد من الثغرات التي خلفتها الأخطاء الأميركية وملأت الهوة الحاصلة لتضع الصين نفسها في المقدمة واحتلت المرتبة الأولى نحو قيادة العالم في مواجهة كورونا وباعتراف العالم.
وعلى النقيض من الصين، فإن الولايات المتحدة أظهرت عجزاً في تأمين المعدات الطبية
اللازمة لتلبية العديد من مطالبها، ناهيك عن تقديم المساعدة لمناطق الأزمات في أماكن أخرى، لتبدو صورة الوضع الأميركي بأنها عاجزة متخلفة عن تصدر الواجهة خصوصاً بعد انكشاف النقص الفاضح في المخزون الوطني الإستراتيجي الأميركي الذي يعتبر احتياطي البلاد الإستراتيجي
من الإمدادات الطبية الحرجة، والذي تبين أنه يحتوي على 1 بالمئة فقط من الأقنعة وأجهزة التنفس الضرورية و10 بالمئة فقط من أجهزة التهوية اللازمة للتعامل مع فيروس كورونا.
نلفت الانتباه إلى أن واشنطن حشدت وقادت الجهود الدولية لمساعدة الدول الإفريقية
عامي 2014 و2015 إبان أزمة إيبولا، أما الإدارة الأميركية الفاشلة بقيادة دونالد ترامب فضلت الاستمرار بتوحشها والإبقاء على عقوبات اقتصادية ظالمة بحق شعوب ودول مثل إيران التي تجهد في إيجاد اللقاح المضاد الذي يقي شعبها والعالم شر هذا الوباء.
لقد ثبت بأن الإدارة الأميركية في واشنطن لم ترتق لمستوى التحدي الإنساني الراهن،
وأن جائحة كورونا فضحت زيف نظام العولمة المتوحش على حساب الروح الإنسانية التي تقوده أميركا خصوصاً بعد الدعوة الوقحة بحجب أجهزة التنفس وسبل الوقاية عن كبار السن وذلك للحد من تكلفة تصنيع أو شراء تلك الأجهزة، وهذا دليل فاضح على أن حياة الإنسان في مفهوم النظام
الأميركي ليست إلا استثماراً خاضعاً للربح والخسارة.
صحيح أن الصين وفي بداية الأزمة، اشترت وأنتجت كميات هائلة من السلع الضرورية
لمكافحة وباء كورونا وهي الآن في وضع يمكنها من إعطائها للآخرين.
وها هي الصين اليوم تعرض المساعدة المادية على الدول المنكوبة بما في ذلك تقديم
الأقنعة، وأجهزة التنفس والمراوح والأدوية اللازمة لكل الدول المنكوبة بما فيها دول الاتحاد الأوروبي التي تسبح في الفلك الأميركي وذلك انطلاقاً من تقديس حياة الإنسان وإنقاذاً للبشرية.
فعندما لم تستجب أي دولة أوروبية لنداء إيطاليا العاجل بشأن المعدات الطبية ومعدات
الحماية، التزمت الصين علناً بإرسال الآلاف من أجهزة التنفس الصناعي وملايين الأقنعة وآلاف البدل الواقية وأجهزة الاختبار، كما أرسلت فرقاً طبية وأجهزة ومعدات مماثلة لإيران وصربيا، كما تبعتها بذلك روسيا وكوبا التي أرسلت لإيطاليا الفرق الطبية إضافة للأدوات الطبية
اللازمة للحد من انتشار كورونا.
ومن العناصر الرئيسة التي ستؤمن للصين نجاحاً في الوصول إلى قيادة العالم هو القصور
الأميركي الفاضح في مواجهة كورونا عالمياً والتركيز على سد الثغرات في الداخل الأميركي فقط، وبالتالي فإن النجاح النهائي لمسعى الصين سيعتمد بقدر كبير على نجاح بكين في مواجهة هذا الوباء والاستفادة من هذه التجربة الفريدة وغير المسبوقة في العالم وهذا ما حصل.
تدرك الصين بأن توفير السلع للدول الموبوءة سيعطي العالم فكرة واضحة عن قيادة
الصين الصاعدة للعالم في مواجهة الأزمات، في حين فشلت أميركا ونظامها النيوليبرالي المتوحش بذلك خصوصاً بعد أن أمضت القيادة الصينية سنوات عديدة في دفع جهاز السياسة الخارجية الصيني إلى التفكير بجدية في قيادة إصلاحات الحوكمة العالمية، وقد وفرت أزمة كورونا فرصة لوضع
هذه النظرية موضع التنفيذ.
أخبرنا التاريخ بأن كل الأوبئة العابرة للقارات التي عرفتها البشرية أعقبتها متغيرات
فكرية واجتماعية وتحالفات سياسية مغايرة لما سبقها أدت إلى إعادة تشكيل النظام العالمي وذلك، منذ وباء أثينا قبل الميلاد إلى الطاعون الأسود في القرون الوسطى إلى الإنفلونزا الإسبانية في القرن العشرين، وقد لا تختلف المتغيرات الجيوسياسية التي ستعقب فيروس كورونا عن
متغيرات الأوبئة التاريخية والولوج في نظام عالمي جديد، خصوصاً إذا طال أمد كورونا واستمر أشهراً عدة وظهرت المزيد من عورات النظام العالمي الحالي.
الصين أعطت العالم دروساً في الإنسانية بعد مبادرتها تقديم المساعدات الطبية للشعوب
المنكوبة بجائحة كورونا وذلك للحد من انتشار الوباء وحفاظاً على أرواح البشر من دون أي مقابل مادي ومن دون أي تمييز بالدين واللون والعرق أو بالثقافة والحضارة، فيما أميركا والاتحاد الأوروبي وإنكلترا جميعهم أحجموا عن تقديم أي مساعدة لإنقاذ الروح الإنسانية من دون
مقابل مالي يوضع في ميزان الربح والخسارة.
لقد سقط قناع نظام العولمة النيوليبرالية، وبان وجه الصين المشبع بالقيم الأخلاقية
والإنسانية المشرق من خلف سور الصين العظيم.
إن التاريخ سيحكي قصة وباء نجح في فضح وإسقاط نظام عالمي متوحش وتحويل هذا النجاح
إلى قصة تدرّس للأجيال.