منذ أكثر من أربع سنوات، أواخر العام ٢٠١٥، انطلقت في الولايات المتحدة الأمريكية حملات المرشحين من الحزبين الديمقراطي والجمهوري للإنتخابات الرئاسية عام ٢٠١٦. وصلت حصيلة المرشحين يومها إلى ٢٥ مرشحا كان آخر من أعلن ترشحه بينهم الرئيس الحالي دونالد ترامب، وتوزّع المرشحون بين خمس مرشحين لنيل ترشيح الحزب الديمقراطي، وعشرين مرشحا لنيل ترشيح الحزب الجمهوري، وانحصرت المنافسة على الترشيح الديمقراطي بين بيرني ساندرز وهيلاري كلينتون، أما على صعيد الحزب الجمهوري، فرغم كثرة المرشحين، لم يكن هناك سوا قليل من المنافسة الرمزية لدونالد ترامب من قبل السيناتور تيد كروز، ومحافظ ولاية أوهايو جون كاسيك.
بالنسبة للحزب الديمقراطي، تفاجئ الجميع بظهور هذا العجوز القادر على أن تكون فئة الشباب رافعته الأولى في الإنتخابات. ظن الجميع في بداية العام ٢٠١٦ أن الترشيح الديمقراطي مضمون لهيلاري كلينتون، وأن وجود بيرني ساندرز لا يعدو كونه فقاعة شهرة ستختفي سريعا، إلا أن صاحب الشعر الأبيض "المنكوش" نازع كلينتون على الترشيح حتى اللحظة الأخيرة. وينقسم الحزب الديمقراطي حقيقة إلى تيارين، التيار التقليدي التابع للفكر المؤسساتي الحزبي أو ما يعرف بال Establishment، والتيار اليساري التقدمي. طبعا تعتبر هيلاري كلينتون طفلة ال Establishment المدللة منذ أن كانت السيدة الأولى خلال ولاية الرئيس بيل كلينتون، وبالتالي كانت خيارها الواضح والطبيعي كمرشحة للرئاسة، أما السيناتور ساندرز فكان من قادة التيار التقدمي داخل الحزب، وبالتالي مرشح هذا التيار دون منافسة. ويعتبر وصول مرشح لا ترضى عنه ال Establishment ليكون مرشح الحزب معجزة نادرة الحصول، فقد يقدم لك التيار التقليدي مثلا أكثر من مرشح يرضى عنهم ليراقب ردة فعل الشعب اتجاه كل واحد منهم، ليختار بعد بضعة أشهر من انطلاق الحملات الإنتخابية مرشحا واحدا ويركز على دعمه بكل ما أوتي من قدرات جبارة تمويلا وإعلاما وتسويقا. ومن النادر أن تشعر ال Establishment بالخطورة على مرشحها لدرجة تصبح فيه مضطرة إلى أن تستخدم نفوذها داخل الحزب الديمقراطي وأن تستغل إمساكها بكل مفاصل الحزب لكي تؤمن وصول مرشحها إلى الترشيح الديمقراطي. العجوز بيرني أجبر هذا التيار التقليدي في ال ٢٠١٦ على كل ذلك. فبعد ان حازت كلينتون على الترشيح الديمقراطي، نشرت ويكيليكس تقارير عن تسريبات لرسائل البريد الإلكتروني العائدة إلى سبعة من العاملين "رفيعي المستوى" في اللجنة الوطنية الديمقراطية. وفي عددها الصادر في ٢٤ تموز ٢٠١٦، نشرت صحيفة "ذا غارديان" تقريرا يتناول موضوع هذه التسريبات، ويتحدث عن محتويات لهذه التسريبات تشير إلى اتفاق ضمني بين أعضاء اللجنة الوطنية الديمقراطية (التي يجب أن تكون مستقلة خلال انتخابات الترشيح) على رفض فوز بيرني ساندرز والعمل بكل الوسائل على الوقوف في وجه وصوله إلى الترشيح الديمقراطي.
هكذا خسر ساندرز الإنتخابات الرئاسية عام ٢٠١٦، وها هو الآن وقد بلغ من العمر ٧٨ عاما يعود معاندا في انتخابات ٢٠٢٠ ليطرح اسمه مجددا كمرشح للحزب الديمقراطي في وجه الرئيس دونالد ترامب والحزب الجمهوري. لكن على ما يبدو، فإن ال Establishment لها رأي آخر، ويبدو أنها هذه المرة جهّزت نفسها مسبقا لسيناريو إعادة ترشّح بيرني. فقد أمطر الحزب الديمقراطي هذا العام ما يقارب الثلاثين مرشّحا للرئاسة، أغلبهم من الوجوه غير المعروفة، وأبرزهم جو بايدن نائب الرئيس السابق باراك أوباما خلال ولايتيه بين عامي ٢٠٠٨ و٢٠١٦. كما برز بين أسماء المرشحين الديمقراطيين عمدة مدينة "ساوث بند" في ولاية إنديانا والجندي السابق في البحرية الأمريكية بيت بوتيجيج البالغ من العمر ٣٧ عاما فقط، وبرز أيضا الملياردير الأمريكي مايكل بلومبرغ، والسيناتور آيمي كلوبشار. ولكن المرشحة الأهم في صراع ساندرز مع ال Establishment كانت السيناتور إليزابيث وارين. وتكمن أهمية وارين في أنها الوحيدة بين جميع المرشحين التي يمكن القول بأنها تمثل التيار اليساري التقدمي في الحزب الديمقراطي إلى جانب ساندرز، في حين يمثل كل المرشحين المتبقين بشكل أو بآخر أفكار ال Establishment. وما يعنيه ترشّح وارين هو أن الأصوات التي كان قد حازها ساندرز في ال ٢٠١٦ بسبب فكره اليساري مهددة بالتوزيع بينه وبين وارين.
انطلقت هذه الحملات الإنتخابية كلها، وبدأت بعد أشهر قليلة منها تتوضّح الصورة لجهة حصرية الحظوظ الجدية للفوز بالترشيح الديمقراطي بين المرشحين الستة المذكورة أسمائهم أعلاه، وبدأت الإنسحابات تتوالى قبل أيام من بدأ الإنتخابات التمهيدية في ولاية أيوا، وهي أولى محطات السباق. وكل انسحاب في ظل بقاء اليزابيث وارين لم يكن يصب سوى في مصلحة خيارات ال Establishment ضد بيرني ساندرز. وخيار ال Establishment عاش بعض التخبط قبل بداية السباق الرئاسي، إذ كان محتارا بحسب المعطيات بين الخيار الآمن جو بايدن، والمجازفة بشاب مثل بيت بوتيجيج، وقد كانت أرقام الأخير جيدة جدا، وتمثلت هذه الأرقام بفوز مفاجئ في ولاية أيوا، إلا أن فوز ساندرز بولايتي نيو هامبشير ونيفادا أدى إلى استنفار في أوساط ال Establishment كانت نتيجته انسحاب مفاجئ غير مبرر لبيت بوتيجيج من السباق الرئاسي وإعلانه دعم نائب أوباما السابق، وذلك قبل يوم واحد من "الثلاثاء الكبير" الأول، وهو اليوم الذي تجري فيه الإنتخابات في ١٤ ولاية دفعة واحدة، وتمثّل نتائج الانتخابات التمهيدية في هذا اليوم وحدها ثلث ال Delegates (أي أصوات المندوبين عن كل ولاية) التي تلعب الدور الأهم في نيل الترشيح الديمقراطي. كما حصل بايدن أيضا على دعم علني من كل من المرشحين المنسحبين مايكل بلومبرغ، آيمي كلوبشار، بيت أورورك، وكاميلا هاريس. وقد استفاد بايدن من دعم الأخيرة في الحصول على كثير من الأصوات اللاتينية التي تشكل نسبة لا بأس بها من مجمل الأصوات في بعض الولايات المهمة.
أما إليزابيث وارين، فرغم خسارتها الساحقة في الولايات الأربع الأولى قبل "الثلاثاء الكبير" الأول، إلا أنها أصرت على عدم الإنسحاب، وأصرت على خوض "الثلاثاء الكبير" رغم حظوظها المعدومة، وقد أدى قرارها هذا إلى إلحاق ضرر كبير بأرقام بيرني ساندرز دون فائدة تذكر، إذ أنها فشلت في حصد حتى ولاية واحدة من أصل ١٤ ولاية، بل على العكس نتج عن استمرارها في السباق عبثا انتصارات كبيرة لجو بايدن على حساب ساندرز في ولايات عديدة بسبب تقاسم الأصوات اليسارية بينها وبين بيرني. ولم يكد ينتهي صدور نتائج انتخابات الثلاثاء حتى خرجت وارين معلنة انسحابها من السباق. ولم تقم السيناتور بدعم زميلها في مجلس الشيوخ وصاحب البرنامج الإنتخابي الأقرب إلى برنامجها كما كان متوقعا، بل على العكس ظهرت بعد انسحابها حملة واسعة "غير رسمية" على وسائل التواصل الإجتماعي تصدّرتها تغريدات تحمل هاشتاغ "ElizabethToBiden#" تدعو فيها مناصري وارين إلى دعم جو بايدن بصفته المرشح الأفضل لهزيمة دونالد ترامب في تشرين الثاني.
هكذا اجتمع الحزب الديمقراطي بيساره ويمينه على الوقوف في وجه عجوز تقدمي. اليوم انتهت المعركة فعليا، ورغم إصرار ساندرز على عدم الإنسحاب، إلا أن الترشيح الديمقراطي أصبح على بعد خطوة أو أقل من جو بايدن. قد يقول البعض أن "بيرني لديه أخطائه" وهم محقّون، إلا أن تاريخ الولايات المتحدة لم يشهد أحدا بجرأته على مساءلة كبرى الشركات ومطالبتها بدفع ما يتوجّب عليها من ضرائب لتحقيق التوزيع العادل للثروة، كما لم يشهد أحدا استطاع الوصول إلى هذه المراحل المتقدمة من المنافسة دون دعمها. سيخسر ساندرز للمرة الثانية على التوالي، لكن مما لا شك فيه أن الولايات المتحدة وشعبها ووعيه ومطالبه لن تكون نفسها ما بعد بيرني، فالواضح هو أن التوجه اليساري قد خطى خلفه أولى خطواته في معقل الليبراليين، والسنين القادمة ستحمل تغيّرا أوسع في مزاج الشعب وسلوكه مما سيجبر الجميع على الكلام بلسان ساندرز.
كان يعلم الحزب الديمقراطي عام ٢٠١٦ أن هيلاري كلينتون قد لا تستطيع الفوز أمام ترامب، وكان يعلم أنها لم تكن تملك خطة اقتصادية واضحة المعالم يطلبها الناخبون في ظل تراجع استمر لسنوات، وكان يعلم أيضا أن الشعب الأمريكي أبدى رغبته في خيارات ثورية بعيدة عن الطاقم السياسي القديم، إلا أنه رغم كل ذلك، أصر على دعم كلينتون فقط ليقف في طريق بيرني ساندرز إلى البيت الأبيض. اليوم، وبعد أربع سنوات متواصلة من العذاب اليومي الناجم عن وجود شخص مثل دونالد ترامب في كرسي الرئاسة، يكرر التيار التقليدي المؤسساتي الخطيئة نفسها، ويصرّ على مرشح تقليدي لن يصمد أمام ترامب طويلا، بل يرتضي هذا التيار تعريض العالم بأسره لخطر أربع سنوات أخرى من جنون ترامب، فقط لكي لا يصل يساري تقدمي يهدد بتغيير مبادئ الحزب والبلاد بأسرها إلى السلطة.