ما الأعياد إلَّا فرح ولقاء وتذكار يلوحُ في أفق السَّماء اللامحدود... وعيدها هو عيد الأعياد وفرح الكثيرين وبهجة القلوب، إنَّها للمسافرين مُرافِقة، وللبعيدين حافظة، وللضالّين ُمرشدة... هي حوّاء ​الجديدة​، أمّ البشرية، السيّدة ​العذراء​، سيِّدة العالمين و​المختارة​ من الله منذُ بدء التَّكوين، والتي يتحلّق حولَها اليوم المؤمنون جميعا، مسيحيّون ومسلمون لتكريمها بترانيم روحيَّة وتأمّلات وآيات قرآنيَّة...

قد غدا عيدُها عيدًا وطنيًّا، إلَّا أنَّه يحمل في طيَّاته هذه ​السنة​، رَمقُ الإنسانيَّة المعذَّبة، المقهورة، الخائفة والقلقة بسبب تفشي جُرثومة فتَّاكة، قلبتِ المقاييس رأسًا على عقب وطيَّعَت إرادة المجتمعات البشريَّة لحكمِها.

وأمَّا مريم فلها خصوصيَّة تظهر لدى الأديان، ففي ​الإسلام​ تُوجد سورة في القرآن باسمها (سورة مريم) وذكرها قد ورد أيضًا في سور أخرى لتكون السيِّدة الوحيدة المذكورة باسمها في القرآن، وفكرة البشارة قد وردت في أكثر من آية، منها على سبيل المثال، في الآية ٤٥ من سورة آل عمران: « إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ». وورد في ​إنجيل​ لوقا أنَّ الملاك جبرائيل جاء إلى مريم وقال لها «سلام لك أيَّتها المنعم عليها. الربُّ معك. مباركةٌ أنت في النِّساء». ويذكر ​الإنجيل​ أنَّ مريم خافت فنقل إليها الملاك البشارة قائلًا: «لا تخافي يا مريم، لأنك قد وجدت نعمة عند الله».

إن هذا العيد يحمل في طيَّاته صورة ​لبنان​ وهويَّته الحقيقيَّة، فهذا الوطن الصغير بحجمِه والكبير بشعبه، الراسخ كما أرزه، عبر الأزمان، يحمل رسالة المحبَّة والتآخي والعيش المشترك بين كافَّة أطيافه وأبنائِه... إنَّه فسيفساء مُتجانسة، مجتمعة، مُتلاصقة، مرصوفة ببعضها البعض، قطعة تسندُ أخرى لتؤلفَ هذا الوطن المتكامل بأبنائه ولتجعلَهُ نموذجًا للحوار و​المحبة​ والسَّلام الرَّاسخ في العمق، الثَّابت كمرجعٍ في القلب، مركزُ الإيمان ومصدره...

إنَّنا نتلمَّسُ اليومَ تعزيةَ مريم في ضيقاتنا، فهي وحدها رجانا والقادرة أن تبلسمَ جراح يأسنا... إنَّ درب الجلجلة قد طال وقد أصبحنا غرقى في مُحيطات آلامنا وأوجاعنا، لا ندركُ للخلاص سبيلًا سوى مريم!.. هي باب السَّماء، الذي نلجُ منهُ إلى أخدار قلبِها حيثُ سُكنى ربِّها وإلهِها، فيرحمنا لأنَّنا أبناؤها الموكلينَ إليها منه عند أقدام الصَّليب...

أمُّنا مريم نُناجيك! فها إنَّنا اليوم بحاجة إلى ملاك الرب ليزفَّ إلينا بشارة الرجاء والخلاص، علَّنا ننهضُ بعزمٍ وثبات من كبوتِنا ونقوى على المواجهة فلا نرضخ لليأس والقنوط ولا نتراجع، فنحنُ أبناؤك الّذي نحتاج منك أن تُنيري لهم السَّبيل في لحظاتٍ من حياتهم، قاسية وظالمة... ترانا اليوم بحاجة إلى شفاءات للنفس التائهة في الظلام واللامبالاة والمراوغة والحقد وهموم الأرض... ترانا اليوم تناسينا أنَّنا من الله وأنَّنا جبلةُ يديه وعلى صورتِه.

فيا مريم! يا بشارة الرَّجاء! لبنان لك! فهلُمِّي يا جميلته، ياعروسته النقيَّة السَّاهرة على أرضِهِ وشعبِه... «هَلُمِّي مَعِي مِنْ لُبْنَانَ يَا عَرُوسُ، مَعِي مِنْ لُبْنَانَ! انْظُرِي مِنْ رَأْسِ أَمَانَةَ، مِنْ رَأْسِ شَنِيرَ وَحَرْمُونَ، مِنْ خُدُورِ الأُسُودِ، مِنْ جِبَالِ النُّمُورِ»... هلُمِّي لحمايتِهِ ولإعانتِه كما أنتِ وحدك تعرفين! فأنتِ الأمُّ والشَّفيع، فبِكِ نستعين!...

أصبحنا بحاجة إلى بشارات كثيرة ننتظرها يومًا بعد يوم، لا بل نترقّبها ونترصَّدها علَّها تأتي حاملةً معها بشائر الفرح والانفراج المُهداة من السَّماء، منكِ يا أُمِّي مريم...

كلُّنا أمل ورجاء بأنَّ هذه المحنة ستنجلي وبأنَّ ​عيد البشارة​ هذا، هو عيد نهاية الأزمات الذي تلوح من خلاله رحمةُ الله في أفق سمائهِ الواسعة، والتي تعكس في داخلنا روح الطمأنينة والاستقرار والسَّلام...