أنقذونا، نريد أجهزة تنفّس، أنقذونا. كانت تلك العبارة التي كرّرتها سيدة إسبانية أمام شاشة هاتفها، لتنقل للرأي العام الدولي أن بلادها التي تصنّف من الدول المتقدمة أوروبياً وعالمياً، صارت عاجزة عن إستيعاب مرضاها جرّاء إنتشار فايروس كورونا. أرادت السيدة المتألمة بسبب ترك زوجها ينازع، أن تقول للعالم: دولتي فشلت في تأكيد جهوزيتها الصحية لمعالجة أبنائها، "لأنها عمدت إلى المفاضلة بين مريض وآخر".
ستترسّخ هذه الواقعة ومثيلاتها في ذاكرة الاسبان والإيطاليين والبريطانيين، وكل الأوروبيين وايضاً الأميركيين. سيحاسبون انظمتهم ديمقراطياً بعد موجة كورونا: لماذا لم تفرضوا في بلادنا ما فعلته الصين؟ لماذا غابت فعالية الإتحاد الأوروبي عن مساندة الطليان والإسبان؟ كيف يمكن أن تعتمد الحكومة البريطانية خطة "مناعة القطيع" غير الإنسانيّة، ثم تتراجع عنها بعد فوات الآوان؟ أين كانت الولايات المتحدة الأميركية حليفة أوروبا التي ساندتها في كل حروبها العسكريّة والأمميّة الدبلوماسيّة والإقتصاديّة؟ لماذا لا تؤازر واشنطن حلفاءها في محناتهم؟ أين يُصرف تقدُّم الغرب في الطب والعلم والأبحاث؟ ستتراكم تلك الأسئلة عند شعوب متألمة جريحة لن تقف متفرجة على مأساة إنسانية، ولن تمحي ما رسّخته ذاكرة الموت على أبواب المستشفيات.
لذا، رفع إيطاليون العلم الصيني مكان علم الإتحاد الأوروبي كتعبير رمزي عن إمتنانهم للوقفة الصينيّة معهم، والإبتعاد الشعبي عن فكرة الإتحاد. بالأساس، لم يعد الأوروبيون يؤيدونه، بدليل موقف البريطانيين بالتخلي عنه. سيكبر المزاج الشعبي الرافض له تدريجياً، مع نشوء قيادات تستولدها الأزمات. هكذا علمتنا المحطّات التاريخية أن الأزمات تصنع ثورات إجتماعية، وسياسية، وفكرية. لن تقتصر على الإيطاليين ولا البريطانيين ولا الإسبان، ولا الأوروبيين وحدهم، بل تمتدّ على مساحات الآلام التي تخلّفها تداعيات كورونا.
من يرصد الولايات المتحدة الأميركية الآن، يعرف ان عدّاد مصابي كورونا يتحرك تصاعدياً على مدار الدقيقة، بعد إستخفاف البيت الابيض بالفايروس. الأميركيون قلقون من تطورات صحية، إقتصادية خطيرة دفعت بعضهم للإنتقال من ولاية الى أخرى، هرباً من الأزمة الكورونية: إلى اين؟. الأهم هو الوضع المعيشي وسط تزايد القلق العالمي من البطالة. ورجّح بنك "اميركا ميريل لينش" أن تعلن واشنطن بأن ثلاثة ملايين أميركي قد يطلبون لأول مرة الحصول على مساعدة البطالة، وهو رقم يزيد عن أربعة اضعاف الرقم القياسي الذي سجّل خلال أوج الركود عام 1982، إلى حدّ وصفه بأنه أول إنحدار إقتصادي يحصل بهذا الحجم النسبي في التاريخ.
كل ذلك، يضع العالم أمام إستحقاقات محلية ودولية. سيُترجم تراجع الأميركيين الى الإهتمام بولاياتهم اولاً طبيعة المرحلة المقبلة عالمياً. هم سحبوا مجموعات عسكرية ضخمة الى داخل أراضي الولايات الأميركية خوفاً من ثورات او حركات إعتراضية شعبية، بسبب القلق والبطالة وسوء التدبير السياسي. يحذو الآخرون حذو الأميركيين، و خصوصاً دول الاتحاد الأوروبي التي إنعزلت كل منها في كيانها، وبات وجود الاتحاد مهدداً.
بالمقابل، تتمدد الصين إنسانياً نحو أوروبا، سبقتها منتوجاتها الصناعية التي غزت اسواق العالم. كان الرئيس الأميركي دونالد ترامب يخطط لسحق النمو الصيني وضرب ايّ نفوذ خارجي لبكّين، فأتى فايروس كورونا يغيّر حساباته: تراجع الأميركيين وتقدم الصينيين.
في حال صحّت النظريات المتعلقة بالثورات التي تنتجها الأزمات: هل نكون أمام أنظمة عالمية جديدة تصطفّ خلف الصين وروسيا؟ لا يزال المشهد قابلاً لأيّ سيناريو، بإعتبار ان فايروس كورونا لا يزال قوياً يسحق كل اقتصادات العالم، ويزيد العزلة المجتمعية، ويرفع نسب البطالة. وهنا قد تحل حروب للهروب من الأزمات الإقتصادية وفتح اسواق ومجالات ومساحات استثمار تلبي المرحلة الجديدة. لذا، المؤشرات تؤكد فقط أن العالم لن يكون بعد كورونا كما كان قبل الفايروس. وكلما طالت تداعيات الأزمة، كلما كانت التغييرات اكثر حدة.