منذ سنوات تتحرّك أسهم قانون العفو العام في لبنان صُعودًا ونزولاً، وفي كلّ مرّة كان يقترب السُجناء من الخروج إلى الحُريّة كانت تظهر عراقيل في اللحظات الأخيرة تُعيد الأمور إلى نُقطة الصفر. فهل سيتمّ هذه المرّة إقرار قانون العفو تجنّبًا لإنتشار وباء كورونا في صُفوف السُجناء، مع ما يعنيه هذا الإحتمال من مخاطر كبرى قد لا تكون السُلطة قادرة على تحمّل عواقبها؟.
لا شكّ أنّ السُجناء يَعتبرون أنّ الوقت الراهن مُناسب للحُصول على عفو عام، وهم يُنفّذون سلسلة تحرّكات إحتجاجيّة في مُحاولة للضغط على السُلطة التنفيذيّة، رافعين حُجّة الإكتظاظ في السُجون اللبنانيّة الذي يُمثّل فتيلاً مُتفجرًا يُمكن أن يشتعل في أيّ لحظة، في حال تسرّب الوباء إلى خلف القضبان، نتيجة أيّ ثغرة مُحتملة، على الرغم من الإجراءات المُشدّدة المُتخذة من قبل القوى الأمنيّة المُولجة تأمين الحماية للسُجون.
من جهة ثانية، يُوجد أكثر من طرف سياسي يرغب بقطف ثمار قانون العفو العام على المُستوى الشعبي، وهو ملفّ جرى تحريكه جديًا قبل الإنتخابات النيابيّة الأخيرة في العام 2018، لكنّ وعود التنفيذ التي أطلقها عدد من كبار المسؤولين–تارة قبل الإنتخابات وطورًا بعدها، ذهبت مع الريح. وبعد كثير من الأخذ والردّ خلال العامين 2018 و2019، عادت أسهم قانون العفو لترتفع بُعيد إندلاعإنتفاضة 17 تشرين الأوّل، وبلغ الأمر حدّ إدراج قانون العفو كإقتراح مُعجّل مُكرّر في جدول أعمال الجلسة التشريعيّة في 12 تشرين الثاني الماضي، بهدف إرضاء شرائح واسعة من الشارع اللبناني الغاضب. لكنّ الفيتوات المُتبادلة التي وضعها أكثر من طرف سياسي، أفشلت إقرار القانون، خاصة وأنّه جرى تسجيل رفض شعبي واسع لأن يتمّ العفو عن مُرتكبي الجرائم الإرهابيّة، وبخاصة جرائم قتل ضُدّ الجيش اللبناني والقوى الأمنيّة الرسميّة، إضافة إلى رفض شعبي واسع لأن يشمل قانون العفو أيّ مُتورّطين في نهب المال العام.
واليوم، وفي ظلّ أزمة كورونا، تُحاول بعض الجهات السياسيّة تحريك قانون العفو من جديد، بذريعة تجنّب تفشّي الوباء داخل السُجون المُكتظّة، والتي تفتقر لمعايير النظافة المَطلوبة. وليس بسرّ وجود سعي لدى البعض بإخراج العديد من المَسجونين المُتورّطين بجرائم إتجار بالمُخدرات والمَمنوعات، وبجرائم سلب وسرقة وإطلاق نار، إلخ. والأهمّ بإسقاط مُذكّرات التوقيف بحقّ أكثر من ثلاثين ألف مَطلوب، إضافة الى إقفال الملف المَعروف بإسم "ملفّ المَوقوفين الإسلاميّين"، بحجّة البطء في وتيرة المُحاكمات، وتوقيف غير مُتورّطين إلى جانب المُذنبين. في المُقابل، يتربّع "التيّار الوطني الحُرّ" في طليعة المُعارضين للعفو عن المُتورّطين بجرائم ضُدّ الجيش، علمًا أنّ حماسة "التيّار" لقانون العفو ككل، كانت قد تراجعت بعض الشيء في المرحلة الأخيرة،بعد التطوّرات التي لحقت بمطلب عودة الأشخاص الذين أبعدوا قسرًا عن قراهم وبلداتهم في الجنوب اللبناني، عند إنسحاب قوّات الإحتلال الإسرائيلي في العام 2000.
وفي كلّ الأحوال، وفي حين يُتوقّع أن ينال أيّ قانون عفو مُوافقة مجلس الوزراء برئاسة الدُكتور حسّان ديّاب الذي يريد تسجيل مكسب لحكومته على هذا المُستوى، لا يُمكن التكهّنبحجم التأييد الذي يُمكن أن يناله قانون العفو داخل المجلس النيابي. وأصلاً، لا تزال أولويّة السُلطة التنفيذيّة مُركّزة على الوضع الصحّي المُتفاقم بسبب أزمة كورونا، ومن بعده على الأوضاع الإقتصاديّة والماليّة والمعيشيّة المُتدهورة، في ظلّ تجنّب لبتّ الملفّات الخلافيّة. ولا يُعرف حتى الساعة، مدى تقبّل القوى السياسيّة لدعوة رئيس مجلس النواب نبيه برّي للتشريع عن بُعد، وما إذا كان يُمكن تمرير قانون العفو عبر هذا الأسلوب.
والأكيد أنّ ما سيحصل خلال هذا الوقت المُستقطع، ينحصر بالإفراجالتدريجي-وعلى دُفعات، عن سُجناء أنهوا مَحكوميتهم لكنّهم لم يدفعوا الكفالات والرسوم الماليّة المَطلوبة لإتمام أوراق خروجهم، وكذلك عن فئة مُحدّدة من السُجناء (مثل المُصابين بأمراض مُستعصية، أو من ذوي الإحتياجات الخاصة، أو الطاعنين في السنّ، إلخ.) الذين أمضوا سنوات حُكمهم من دون إثارة أيّ نوع من المشاكل. كما يُتوقّع أيضًا الإفراج عن مَوقوفين وقاصرين تخطّوا مُدَد توقيفهم القانونيّة، أو مُتورّطين بجنح صغيرة. وتُوجد مُطالبات مُتصاعدة لأن يَصدُر عن رئيس الجمهوريّة العماد ميشال عون العفو الخاص عن المساجين المُتورّطين بجنايات لا تتجاوز عُقوبتها العام الواحد.
وفي كلّ الأحوال، إنّ إجراءات المُعالجة الحاليّة غير كافية لكنّها أفضل من لا شيء، في إنتظار سماح الأوضاع بعقد جلسة تشريعيّة يُدرج ضُمن بنودها قانون العفو، والأهمّ أن يحظى هذا القانون بتوافق مُسبق يسمح بإقراره، لمُعالجة مُشكلة إكتظاظ السُجون بشكل نهائي.