وبعد
عايش جيلنا الحروب على أنواعها، والنّزاعات السّياسيّة المتوارثة على اختلافها، والأزمات الاقتصاديّة الضّاغطة، وأيديولوجيّات عدّة على تباينها، والجماعات الدينيّة المتطرّفة والمتزمّتة. وفي المقابل، شهدنا تطوّرات تسبق الأحلام الإنسانيّة، فتحوّلت هذه البسيطة قرية صغيرة تضاعفت، فيها، القيم ونقيضاتها.
وبعد
في زمن، ينعم الكائن البشريّ بفيض من الثّروات، والإمكانات، والطّاقات الفكريّة الهائلة الّتي أعطت الإنسان الحرّيّة، لكنّها أوصلته إلى نوع من العبودية المغرية. وما كان شيء من كلّ ما هو مستجدّ في كوكبنا، إلّا ليزيد الإنسان انطواء على غريزته، ومحوريّته، وأنانيّته، إلى أن أطلّ، علينا، في وقت لم نتوقّعه، وفي ساعة لم ننتظرها، ما يعرف بفيروس "كورونا"، أو "كوفيد 19"، ليقلب إمكانات الإنسانيّة ومفاهيمها رأسًا على عقب، ويعيد الإنسان إلى حجره الأوّل.
إنّ هذا الاضطراب الّذي يهزّ النّفوس الإنسانيّة، على اختلاف مراكزها، وطبقاتها، ومعتقداتها، وقد طال الأوضاع الحياتيّة والاجتماعيّة، وانسحب على تقاليدها، وعاداتها المحبّبة منها، والممقوتة، كما أسقط هيمنة العقل على الزّمن، من الماضي، بالمعرفة، ومن المستقبل، بالتّخطيط والتّبصّر.
وبعد
فهل للكورونا أن تدعونا، اليوم، إلى قراءة جديدة، لهذه المفاهيم كلّها؟ لا بل إلى قراءة جديدة للواقع الإنسانيّ برمّته، بغية التّخلّي عن الموروث الفارغ، سياسيًّا، ودينيًّا، واجتماعيًّا، من خلال العودة إلى الأصل الشّفّاف النّقيّ غير المركّب، وإعادة قراءة لا النّصّ الدّينيّ والعقائديّ وحسب، بل الأنظمة والقوانين البشريّة الّتي رافقت مسيرة الإنسانيّة بتطوّراتها، إلى يومنا هذا؟!
إنّ الأوبئة المنتشرة في العلاقات القائمة بين النّاس، كانت، وما تزال الأشدّ خطورة على الجماعة الإنسانيّة. إلّا أنّ هذا الوباء قد اضاء على نقطة الخوف الموجودة في الكيان الإنسانيّ من دون تميّز بين إنسان وآخر.
وبعد
لا بدّ، إذًا، أن ينتصر الإنسان على هذا الوباء العالميّ، انتصاره، عبر التّاريخ، في المحافظة على استمراريّته، لأنّي أؤمن، بأنّ قوانين الطّبيعة الّتي تفوق كلّ المنظومات البشريّة، مرتبطة بروح واضعها، أي الله. والله ما عرفته إلّا محبًّا لجنسنا البشريّ الهشّ، حبًّا مجّانيًّا يفوق كلّ قدرة استيعاب، وما عرفته إلّا رحومًا، كذلك، ورحمته أكبر بكثير من رحمة البشر، على بني جنسهم.
وبعد
هل يعود الإنسان، ما بعد مرحلة "الكوفيد 19" إلى عمليّة تأويليّة، شاملة، لكامل مسيرته الإنسانيّة، كما قال المعلّم الأسمى عن كون السّبت للإنسان، وليس العكس؟ وذلك، مع إدراكنا أن ليس، لنا، ههنا، مدينة باقية، ولا آمنة، إنّما نطلب الآتية... إذًا، علينا دائمًا أن نحافظ عليها، بالوقاية، وتفعيل روح التّضامن والمحبّة، الّذي، به، ننتصر على وباء الأنانية القاتلة في التّسلط على غنائم العالم.
وبعد...