سألت حركة مواطنون ومواطنات في دولة "ماذا نعرف عن الكورونا؟ نعرف أعداد الوفيات بين المصابين الذين يخضعون للمعالجة. ولكن هل نعرف أعداد المصابين؟ طبعا لا. ونحن لا نعرف بالتالي نسبة الوفيات بين الذين يصابون بالفيروس ولا نعرف درجة خطورته. ذلك لأن الغالبية العظمى من المصابين لا يخضعون للمعالجة لا بل هم لا يعرفون أصلا أنهم مصابون.
واضافت في بيان: "ما نعرفه فعليا غير عدد الوفيات هو الطاقة الاستيعابية للمستشفيات. قرارات الحجر في المنازل ومنع التجول لا ترمي في الحقيقة سوى لتأخير وفود المرضى إلى المستشفيات، وللتغطية على نقص الطاقة الاستيعابية وعلى نقص التجهيزات وعلى نقص آليات الكشف والفحص. وهذا يصح في لبنان كما في معظم الدول. ما تخشاه الطبقات الحاكمة ليس تفشي المرض، فهو، وفق ما يقولون، سوف يتفشى ما لم يوجد له لقاح، عاجلا أم آجلا. ما تخشاه أن تعجز المستشفيات عن استقبال المرضى الذي يفدون إليها وينكشف تقصيرها وسوء تدبيرها أمام الملأ".
من هنا أسئلة خطيرة: إلى متى يستمر منع التجول؟ وماذا يحصل بالناس، ليس بنتيجة المرض، بل بنتيجة منعهم من التجول والعمل؟ هذا التساؤل قائم في كل البلدان لكن حدته مضاعفة لبنان، لأن الكورونا لم يأت ليمحو مفاعيل الإفلاس كما يحلو للبعض أن يتصوروا، أو أن يأملوا، بدءا بسعادتهم لتوقف التحركات الشعبية، بل هو يضاعف وقعها.
الكورونا أصابت كل اقتصادات العالم، وخفضت، من ضمن أسباب أخرى، اسعار النفط. بات حصول لبنان على مساعدات أصعب بكثير. وباتت ابواب الهجرة أمام اللبنانيين أضيق بكثير. ليس فقط بسبب إجراءات حظر السفر بل بسبب تردي الأوضاع االاقتصادية في الدول التي يقصدونها.
كيف يتدبر الناس أمورهم وهم في غالبيتهم باتوا محرومين من أي دخل؟
هذا الواقع لم “يقع” على اقتصادٍ مُعافى، فقبل أسبوعين، اكتشفت الحكومة أن الدولة لم تعد تستطيع إيفاء دائنيها بالدولار فأعلنت التوقف عن السداد، محولة مجرد الإقرار بالواقع المزري إلى قرار، واستحقت كل سندات اليوروبوند، أي 30 مليار دولار دفعة واحدة. قام زعماء الطوائف بالتهليل لهذا الإنجاز لأنهم باتوا “حريصين” على ودائع المودعين، وهم أنفسهم الذين راكموا هذا الدين، وكانوا يهللون لكل إصدار من إصدارات اليوروبوند خلال خمس وعشرين سنة، وهم أنفسهم، في حكومة الوحدة الوطنية الأخيرة، الذين سددوا، من أصل وفوائد، سبعة مليارات وسبعمئة مليون دولار لحاملي اليوروبوند، (أربعة مليارات وسبعمئة وعشرة ملايين أصل الديون وملياران وتسعمائة وتسعين مليون من الفوائد) على الرغم من الإنذار الصريح الذي وجهته حركة “مواطنون ومواطنات في دولة” إليهم في تشرين الأول من سنة 2018.
وقد فاتهم أن ما يسمح للمودعين بالحصول على ودائعهم بالدولار، إن كان هذا فعلاً همهم، هو واحد من ثلاثة: إما قيام الدولة بتسديد اليوروبوند إلى المصارف، وهي التي تملك غالبية اليوروبوند، وإما إعادة مصرف لبنان الودائع بالدولار التي استقطبها من المصارف، وإما قيام المصارف ببيع ما تملك من سندات اليوروبوند إلى مستثمرين أجانب. لم يعد الحلان الأولان متاحين لأن مصرف لبنان مفلس هو أيضا لكون المتوجبات عليه بالعملات الأجنبية تفوق بكثير موجوداته، وهذا بالتحديد ما جعل الدولة تتوقف عن سداد اليوروبوند. أما الحل الثالث فهو الذي اعتمدته المصارف لكنه هو الذي أدى إلى إدخال دائنين جدد إلى الحلبة. وهؤلاء الدائنون لم يدخلوا أصلا لثقة لديهم بأن اليوروبوند سوف تسدد بل لعلمهم اليقين بأنها لن تسدد، وقصدهم، بعد أن اشتروها بربع قيمتها الأسمية، الدخول طرفا مقتدرا في إدارة التفليسة والتفاوض على مآلاتها كي يحصلوا من القليل المتبقي من الأموال، ولا سيما الذهب، أو يقتطعوا مما قد يرد من قروض جديدة قد يقدمها صندوق النقد أو البنك الدولي، ما يفوق المبالغ التي وظفوها فيحققوا أرباحا كبيرة.
ما إن أعلن التوقف عن السداد حتى نسي الأمر. أصبح أول اهتمامات الحكومة وشغلها الشاغل الكابيتال كونترول. عشرات الصيغ للنص القانوني المنتظر يتم تداولها، وكلها تنطلق من النسخة الأولى التي وضعها البنك المركزي قبل تأليف الحكومة، إنما مذيلة بتعليقات واقتراحات من هنا ومن هناك. ما هو الكابيتال كونترول؟ هو مجموعة آليات تضعها الدول للحد من تحويل الأموال بالعملات الأجنبية إلى خارج البلد ولحصرها بنفقات تتصل أساسا بالحاجات التموينية والإنتاجية المحلية وفق ما تحدد. وهي إجراءات تتخذ عندما يكون رصيد موجودات البلد من العملات الأجنبية منخفضا أو مهددا بالانخفاض بنتيجة خسائر متوقعة. أما في لبنان، فقد اتخذت إجراءات الكابيتال كونترول منذ حدد البنك المركزي السلع التي يمول استيرادها ومنذ قررت المصارف التوقف عن تحويل أموال المودعين إلى الخارج، ما خلا المحظيين طبعا. ولم يعد هناك اليوم لدى المصارف أية موجودات خارجية بالعملات الأجنبية بينما ما تبقى منها لدى مصرف لبنان لا يسمح له حتى بتمويل استيراد المستلزمات الطبية. لم يعد هناك من كابيتال (رأسمال) ليوضع عليه الكونترول(سيطرة). فما داعي هذا الاهتمام؟ التفسير الوحيد أن هذا القانون لا يرمي إلا إلى تشريع الاستيلاء على مدخرات المودعين بمفعول رجعي.
بعد الكابيتال كونترول يأتي الكلام عن الهيركات،أو “قصة الشعر”، أي شطب قسم من الودائع لتخفيض المطلوبات المترتبة على المصارف والتغطية بالتالي على جزء من خسائرها. وهو يرفق بطرح حول تحويل جزء آخر من الودائع إلى رساميل لتعزيز أوضاع المصارف أيضا وأيضا. كل هذه العمليات لا تعدو كونها ألاعيب دفترية تلغي قسما من الودائع لكنها لا تنقذ القسم المتبقي لأن الودائع التي لا يصيبها الهيركات أو التي لا تحول إلى رساميل لن يمكن الحصول عليها بالعملات الأجنبية لعدم وجود عملات أجنبية أصلاً. جل ما هو ممكن دفع القسم المتبقي من الودائع بالليرة اللبنانية التي فقدت 50% من قيمتها والتي سوف تفقد المزيد من قيمتها كلما ضخ المزيد من الليرات عبر ما يسمونه “تحرير الودائع الصغيرة”. يُزين هذا الطرح بالحرص المشهود لدى أرباب السلطة على مصالح الفقراء. فهم يزعمون أن الودائع التي سوف تلغى عبر الهيركات أو عبر تحويلها إلى رساميل لن تكون ودائع صغار المودعين. ما لا يقولونه، ولعلهم لا يعرفونه، إن بين الودائع الكبرى التي يصوبون عليها وينوون التضحية بها أموال الضمان الاجتماعي وصناديق تعاضد المعلمين والمحامين والأطباء والمهندسين والصيادلة وغيرهم، وهي تفوق عشرة مليارات دولار. لكن هذه الأموال تخص نصف الشعب اللبناني في الواقع. والخسائر التي تتهددها سوف تضاف إلى أن القسم منها بالليرة قد فقد قرابة نصف قيمته بينما القسم منها بالدولار لم يعد ممكن المنال، في وقت تراجعت مداخيل الصناديق بحكم تدهور الأوضاع الاقتصادية وتخلف المؤسسات، بدءا بالدولة، عن تسديد المتوجبات عليها.
كل هذا لا يخدم سوى هدف واحد: الاستمرار في تغذية الوهم بأنه ما زال في لبنان نظام مصرفي يعمل.
تبين مع الإفلاس أولا ومع الكورونا ثانيا أن السلطة عاجزة ليس فقط عن ارتقاب الفواجع التي تهدد البلد، بل أيضا عن الإقرار بها عند حصولها، وحتى على التعامل معها متى فرضت بوطأتها الإقرار بحصولها. في المقابل تتبين قدرة السلطة على التغطية على أزمة بأزمة أخرى تفتعلها إن لم تجدها جاهزة أمامها، وعلى التغطية على قلق بقلق أفدح.
وها هي اليوم، بحجة الفقر، تستعد لإعادة إحياء أمجاد الزبائنية وشراء الولاءات التي امتهنتها لعقود. وعوضا عن إرساء التغطية الصحية الشاملة، وتعداد المقيمين، وتثبيت الحقوق الأساسية للمواطنين في الصحة والتعليم، ورصد الموارد اللازمة للمستشفيات وللتعويض عن التعطيل القسري الذي يفرضه منع التجول على قطاعات محددة، وهي طبعا عاجزة عن كل ذلك، راحت تنظم حفلات التبرع لكي يشكر الفقراء والمحتاجون كبار القوم وينسوا الأخطاء والكبائر التي ارتكبوها. وها هي تسعى للحصول على قرض بقيمة خمسمئة مليون دولار من البنك الدولي لاستخدامه في تمويل ما سمي برنامج مكافحة الفقر حيث يتولى كل زعيم عبر أزلامه في البلديات وبين المخاتير حشد “فقرائه” فيمننهم ويشتري ولاءهم.
مسكينة حكومة حسان دياب: الإفلاس أعلن على لسانها. قانون الكابيتال كونترول وقع على كاهلها، ومتى ظهرت فداحة مفاعيله، تبرأ واضعوه منه ومنها. تهريب عامر الفاخوري وقع على رأسها. ومآسي الكورونا القادمة سوف تعصف بها.
إلى متى تبقى حاجة الزعماء الفعليين إلى هذه الحكومة؟ أم يقرر أعضاؤها التبرؤ من الدور الشكلي الذي ألقي عليهم ليقولوا بصراحة ما سمحت لهم التجربة بأن يكتشفوه: الحاجة إلى دولة فعلية، لا تكون ائتلاف زعماء الطوائف، بل دولة مدنية قادرة لا تستعير شرعيتها من أحد بل تستمدها من التعامل المباشر مع المجتمع بواقعه. فيستقيلون وينضمون إلى من يعملون على تظهير هذا البديل قبل فوات الأوان.