رغم كل ما حلّ ويحلّ بالبلد من أزمات، اقتصادياً ومالياً، منذ ما قبل كورونا وبعدها، تواصل جمعية مصارف لبنان سياستها المتجاهلة حقوق اللبنانيين مودعين وموظفين قابضة على أموالهم، مُبتدعة البدعة تلو الأخرى لتبرير فعلتها ولمخالفة قوانين الارض والسماء غير آبهة بأي حسيب أو رقيب.
إلّا أنّ السؤال الكبير الذي يطرحه كثيرون هنا هو: من أين لهذه الجمعية المصرفية كل هذا العناد والقوة التي تتحدى الجميع؟ ومن يقف خلفها؟ أهي مجموعات الضغط الدولية وعلى رأسها الولايات المتحدة الاميركية؟ أم الامبراطورية المالية العالمية التي ينتمي اليها أصحاب المصارف وكثيرون من أركان الطاقم السياسي والاقتصادي؟ أم انّ الامر لا يخرج من النطاق المحلي، أي من الحديقة اللبنانية التي تمارس فيها جمعية المصارف «هواياتها المفضّلة» في قبض أموال اللبنانيين وتجفيف ما تبقّى لديهم من الورقة الخضراء، وحتى من الليرة اللبنانية إذا اضطرّها الأمر...
والحقيقة المفجعة، في رأي بعض الاقطاب السياسيين، تكمن في انّ المصارف ليست بعيدة عن دعم مجموعات من أركان الطبقة السياسية الشركاء فيها عبر ودائعهم ومصالحهم المالية التي كنزوها على مرّ السنين منذ بداية الازمة عام 1975 وحتى الآن تغطّيهم جميعاً سلطة مالية تطبّق القوانين بما يخدم مصالحهم، وتالياً مصالحها، خصوصاً أنها تحوّلت شريكة لهم في «الغُنم» لا في «الغُرم» وتدير أذنها اليهم والى الخارج الذي يهمس فيها أن «دَمّري هذا وانصري ذاك»، مقابل وعود بدفعها الى مراتب عليا اصبحت اليوم سراباً بعد «خراب البصرة» بانهيار البلاد مالياً واقتصادياً، والذي زادَته كورونا دفعاً الى الوادي السحيق الذي لن يكون الخروج منه الّا بالاعتماد على النفس بعدما انتهى زمن وجود المُعين والمُغيث الذي بات يحتاج الى من يعينه ويغيثه، اذ كيف لطبيب أن يدواي الناس وهو عليل؟!.
ما أسقطَ مشروع «الكابيتال كونترول» في مجلس الوزراء أخيراً كان انكشاف الجهات السياسية الداعمة للمصارف، بل القابضة عليها من خلف الستارة، والتي تبيّن أنها هي من يقف خلف بعض نصوصه التي جاءت لخدمة المصارف تحلّل فيها لمصلحتهم وتحرّم على المودعين والموظفين حرية التصرّف بأموالهم ورواتبهم بمعزل عن أي قنص او تقنين، الى درجة انّ هذا المشروع أطاح صدقية هذه الحكومة في هذا الجانب وفي ما تَعد به من إصلاحات اقتصادية ومالية، او على الاقل صدقية مجموعة من أعضائها الذين ذهب البعض الى وصفهم بأنهم «موظفون مصرفيون كبار برتبة وزراء مهمتهم الدفاع عن المصارف التي ينتمون اليها»، علماً أنّ البعض نقل في هذا السياق عن حاكم مصرف لبنان رياض سلامة اعترافه انّ مشروع الكابيتال كونترول الذي كان مطروحاً على طاولة مجلس الوزراء قبل سَحبه «يخدم مصلحة المصارف»، إلّا أنّه لم يصدر عن «الحاكم» أي موقف رسمي علني يُبرّئ ساحته امام اتهام شريحة واسعة من اللبنانيين له بأنه «يتحمّل مسؤولية كبيرة عمّا آلت اليه الاوضاع المالية نتيجة سياسته المصرفية التي ضربت الصلاحيات التي يمنحه إيّاها قانون النقد والتسليف بعرض الحائط، وخَدمت مصلحة المصارف ومن يقف خلفها من قوى سياسية، بدليل أنه لم يتمكّن حتى الآن من لجم الصيارفة الذين يتلاعبون بسعر الدولار يوميّاً ولم يلتزموا أيّاً من تعاميمه والاتفاقات التي أبرَمها معهم في حضور جمعية المصارف التي تحوم الشبهات حول استفادتها أيضاً من تلاعب الصيارفة بسعر الورقة الخضراء.
وتظهر مجموعة من الدراسات والتقارير والمقالات حول مصرف لبنان والقطاع المصرفي، كيف انّ بعض القوى السياسية تقبض على المصارف، فبعض هذه الدراسات يقول انّ مصرف لبنان «يشكّل حالة فريدة إذ خَصّه قانون النقد والتسليف بدرجة عالية من الاستقلالية، لكنه لا يستطيع ممارستها، لأنّ الدولة لا تفهم استقلالية المؤسّسات عن السلطة ولا تعترف بها. وانه مصرف مستقلّ وغير مستقلّ في الوقت نفسه، بسبب طبيعة الاقتصاد السياسي اللبناني، الذي بُني عليه النموذج الاقتصادي لِما بعد الحرب في تَلازم المسارات الثلاثة: الدولة والمصرف المركزي والمصارف التجارية».
وتظر دراسة أخرى انّ «استمرار الاقتصاد اللبناني في حالة «أزمة دائمة وراء الأبواب» منذ عام 1997 وحتّى الآن، جَعل من استقلاليته الفعلية تعني انهيار المصارف والدولة، لذلك ظلّ يَكتتب بسندات الخزينة للحفاظ على هذه الترويكا وعلى الاستقرار السياسي للنظام الذي انبثق من اتفاق الطائف». وتشير «انّ الدولة اللبنانية تنفرد عن الدول ذات الدين العام في اعتمادها المصارف ممولاً لها، وبالتالي كمدين لمشاريعها. إذ على عكس معظم الدول التي تلجأ الى الاستدانة من المؤسسات الدولية كالبنك الدولي، أو ارتكازها على مؤتمرات المنح الدولية، ترتمي الدولة اللبنانية في أحضان المصارف التجارية «الوطنية».
وتظهر تقارير ودراسات أخرى انّ 43 % من المصارف «قريبة» من قوى سياسية، إن كان عبر المالكين او مجالس الادارات او رؤسائها. وتصرف الدولة على الدين العام نحو 36 % من موازنتها، يعود ذلك بالربح على المصارف التي بدورها تموّل مشاريع إنمائية من خلال الحكومة تنتهي إلى «لا شيء»، في غياب الخدمات العامة وتدهور الاقتصاد الذي يعود ليفرض الاستدانة مجدداً».
يَتبدّى من كل هذه المعطيات انّ القوى الفاسدة السياسية وغير السياسية، التي استباحَت المال العام ونَهبته على مرّ السنين والى الآن، لم ترتوِ بعد. وها هي اليوم تتخفّى خلف «الكابيتال كونترول» وشقيقه «الهير كات» للاستيلاء على ما تبقّى لدى اللبنانيين من مدّخرات، وترك الفتات لهم في زمن لم يعد في استطاعة لبنان أن يحصل فيه على أي قروض او دعم خارجي عربي او أجنبي، لأنّ عالم ما بعد كورونا وما يشهده من انهيارات مالية واقتصادية ونفطية، باتَ يفرض على لبنان وكل دولة مأزومة أن تدبّر رأسها وتقلّع شوكها بأيديها...