يبدو من الواضح أنّ إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب لا توفر جهداً لأجل استغلال وباء كورونا في الداخل الأميركي وفي الخارج، بهدف أساسي وهو خدمة سياساتها الرأسمالية النيوليبرالية القائمة على الاستغلال والنهب والسيطرة، لمصلحة الشركات وكبار الأثرياء، على حساب حياة الناس وإنقاذ أرواحهم، الذي هو آخر ما يفكر فيه العقل الاستعماري للإدارة الأميركية… وفي هذه اللحظات التي يواجه فيها العالم أجمع حرب فايروس كورونا، وبدل ان يجري توظيف الجهود ودراسة سبل القضاء على هذا الوباء، تخصّص الإدارة الاستعمارية الوقت والجهد للبحث والتخطيط لشنّ الحرب ضدّ العراق، دولة وشعباً ومقاومة، لانه تجرّأ على اتخاذ قرار مطالبة الولايات المتحدة بسحب قواتها من العراق، على اثر ارتكبها جريمة اغتيال القائدين المقاومين الشهيدين قاسم سليماني وأبو مهدي المهندس، وذلك في محاولة يائسة لإرهاب العراقيين وفصائل المقاومة وإعادة إخضاع العراق للهيمنة الاستعمارية الأميركية..
لقد كشفت صحيفة «نيويورك ثايمز» الأميركية فحوى ما دار في اجتماع عُقد قبل أسبوع في البيت الأبيض برئاسة ترامب وحضور كبار القيادات السياسية والعسكرية والمستشارين، خصص لبحث في تنفيذ عملية عسكرية في العراق.. حيث ساد الانقسام بين فريقين…
فريق أول، يؤيد إرسال آلاف الجنود للقيام بعملية عسكرية واسعة تستهدف قيادات ومراكز وقواعد فصائل الحشد الشعبي، لا سيما كتائب حزب الله، ومن أبرز مويدي هذا الخيار، وزير الخارجية مايك بومبيو ومستشار الأمن القومي أوبراين…
وفريق ثان، ويضمّ وزير الدفاع والمسؤولين في البنتاغون، وقائد القوات المشتركة، يعارض مثل هذه العملية، ويحذر من خطورتها على القوات الأميركية، وانها ستكون دموية، وقد تعطي نتائج عكسية، وتقود إلى حرب مع إيران.. ويرى انّ مثل هذه العملية يتطلب إرسال المزيد من الجنود إلى العراق وتحويل الموارد من المهمة الأساسية وهي محاربة داعش، وتدريب القوات العراقية، وهو ما يتعارض مع الاتفاقية المعقودة مع الحكومة العراقية…
أولا، لماذا تصرّ واشنطن على رفض الاستجابة لطلب العراق بسحب قواتها منه؟ ولماذا تتمسك أميركا بالبقاء في العراق رغماً عن ارادة أغلبية أبناء العراق؟
الجواب واضح، وهو انّ العراق مهمّ جداً بالنسبة للهيمنة الاستعمارية الأميركية في المنطقة، للأسباب التالية..
السبب الأول، يحتوي على ثروة نفطية كبيرة.
السبب الثاني، يتميّز بموقع جفرافي هامّ، فهو مجاور لكلّ من سورية وإيران، وفي نفس الوقت مجاور لكلّ من السعودية والكويت والأردن، ويطلّ على الخليج..
السبب الثاني، عدد سكانه متوسط، يبلغ نحو ثلاثين مليون نسمة، ويحوز على كادرات وخبرات علمية…
انّ هذه الأسباب مجتمعة تجعل من العراق، في حال تحرّر بالكامل من وجود القوات الأميركية، وتخلص من كلّ رواسب الاحتلال، لا سيما دستور الحاكم الأميركي بول بريمر، وبالتالي امتلك استقلاله وحرية قراره، تجعل منه دولة قوية وطرفاً أساسياً في حلف المقاومة الذي يضمّ إيران وسورية والمقاومات العربية في لبنان واليمن وفلسطين، مما يشكل تهديداً كبيراً للسيطرة الاستعمارية في المنطقة..
ثانياً، هل أميركا في ظروف تسمح لها بالعودة الى الغرق في حرب جديدة في العراق..
الوقائع والمعطيات التالية تفيد..
1 – تجربة غزو أميركا للعراق بين 2003 و2011، وكلفته الباهظة، مادياً وبشرياً، والتي أجبرت أميركا على الانسحاب، لا تزال حاضرة وبقوة، وأميركا لا تزال تعاني حتى اليوم من التداعيات والنتائج السلبية لذلك على الاقتصاد الأميركي، الذي دخل اليوم في حالة ركود نتيجة حرب كورونا..التي تحتاج إلى موارد كبيرة لمواجهتها..
2 – العراق الذي هزم أميركا، هو اليوم في وضع مختلف عما كان عليه عشية الغزو الأميركي عام 2003.. العراق اليوم يمتلك مقاومة قوية ومتمرّسة ولديها قدرات وخبرات وجاهزة تفوق عشرات المرات ما كانت عليه بين أعوام 2003 و2011، وهي بعد أن خاضت حرب عصابات ضدّ الاحتلال الأميركي وأجبرته على الانسحاب عام 2011، خاضت حرباً لا تقلّ ضراوة ضدّ تنظيم داعش الإرهابي، ونجحت في إلحاق الهزيمة به وتحرير المناطق التي سيطر عليها… ولهذا فإنّ أميركا في حال شنّت حرباً جديدة ضدّ العراق، فإنها ستواجه مقاومة من نقطة متقدّمة قادرة على تكبيد القوات الأميركية خسائر جسيمة وتغرق أميركا في مستنقع من الاستنزاف يفوق حروبها السابقة، وهي غير قادرة على تحمّله…
3 – كما أنّ العراق اليوم ليس محاصراً دولياً، أو يتعرّض لعقوبات من مجلس الأمن.. وهو اليوم ليس معزولاً، بل يملك حلفاء أقوياء في حلف المقاومة الذي يحقق الانتصارات في مواجهة الإرهاب والاحتلال والاستعمار وأدواته، في حين انّ العالم اصبح منقسماً إلى محورين كبيرين، محور تقوده أميركا ويسعى إلى محاولة الحفاظ على هيمنته الأحادية المتداعية، ومحور تقوده روسيا والصين ويسعى إلى كسر هذه الهيمنة وبناء نظام دولي جديد يقوم على التعددية والتشاركية واحترام القوانين والمواثيق الدولية.. ولهذا فإنّ أميركا لا تحظى بأيّ غطاء او تأييد دولي لتبرير شنّ حرب جديدة، حتى من قبل حلفائها الذين سارعوا مؤخراً إلى سحب جنودهم من العراق..
4 – ترامب وعد الأميركيين بعدم شن حروب جديدة، وأعلن وما زال انّ الاقتصاد هو أولويته، وهو مقبل على انتخابات في الخريف المقبل، ويدرك جيداً انّ الرأي العام الأميركي باغلبيته لا يؤيد الحرب.. ولهذا أقدم ترامب على عقد صفقة مع حركة طالبان في أفغانستان تقضي بجدولة سحب القوات الأميركية، من هناك، ولوحظ انّ توقيت ذلك جاء عشية الانتخابات، للقول للأميركيين إنه قد نفذ وعده بإعادة الجنود الأميركيين إلى الديار.. وذلك بهدف زيادة شعبيته.. واليوم هو بأمسّ الحاجة إلى ترميم شعبيته المتراجعة على خلفية أدائه السيّئ في مواجهة وباء كورونا..
ثالثاً، أمام هذه المعطيات المذكورة آنفاً، انقسام داخل الإدارة، وعدم تأييد الأميركيين للحرب، واقتراب الانتخابات الرئاسية، وواقع العراق المختلف عن عام 2003، وكذلك الواقع الدولي المتغيّر، فإنّ المرجح ان تقدم واشنطن على اعتماد خطة تقوم على التالي..
1 – إعادة تموضع بقواتها في العراق، وهو ما بدأته، بحيث تخلي قواعد في مناطق لا تتمتع فيها بأيّ تأييد، لمصلحة تعزيز بقائها في قواعدها الموجودة في مناطق تعتقد انها توفر غطاء لها، مثل مناطق شمال العراق..
2 – العمل على تغذية التناقضات العراقية العراقية، من خلال دفع الأحزاب والقوى والأطراف الموالية لواشنطن لأجل الاعتراض على طلب البرلمان العراقي سحب القوات الأميركية، وكذلك الحؤول دون تشكيل حكومة جديدة تدعم قرار البرلمان، ومحاولة إثارة صراع طائفي ومذهبي وعرقي، والتحريض ضدّ إيران، وكتائب الحشد الشعبي..
لكن مثل هذه الخطة الأميركية سيكون مصيرها الفشل لسببين..
السبب الأول، انّ الشعب العراقي وفصائل المقاومة مصمّمون على خوض معركة التحرير الثاني للعراق من وجود القوات الأميركية.. لأنه من دون ذلك لن يتحقق الاستقلال الحقيقي للعراق، ولن ينعم العراقيون بالأمن والاستقرار، واستطراداً لن يستطيعوا إعادة بناء دولتهم الوطنية العراقية الخالية من رواسب الاحتلال وقانون بريمر الفتنوي، ولا استغلال ثروات العراق النفطية لإعادة بناء الاقتصاد وتحقيق التنمية والعدالة الاجتماعية..
السبب الثاني انّ الولايات المتحدة ليس بمقدورها تحمّل تبعات الانزلاق الى حرب جديدة أكثر كلفة من حربها السابقة..
لذلك عندما تستنفد واشنطن محاولة إطالة أمد بقاء قواتها، وتفشل في اللعب على التناقضات الداخلية، وتبدأ المقاومة في تصعيد عملياتها، بعد انقضاء المهلة المتاحة للقوات الأميركية لتنفيذ قرار انسحابها.. عندها سوف تختار الانسحاب باعتباره خيار لا مناصّ منه، وهي مجبرة عليه…