نَدخُلُ، هذا الأحدَ، عُمقَ البَرِّيَّةِ مَعَ القِدِّيسَةِ مَريمَ المِصريَّةِ، لِتَقُولَ لنا الكَنيسةُ: ما لم نَتَعرَّ مِن كِبريائِنا بِالتَّوبَةِ والبُكاءِ على خَطايَانا، لَن نَقُومَ مِن قَبرِ سَقَطاتِنا.
هذِه القِدِّيسةُ مِنَ القَرنِ الرّابعِ الميلاديّ، مِثالُ الانتِقَالِ مِنَ الظُّلمَةِ إلى النُّور. تَعاطَتِ الفِسقَ في الاسكَندَرِيَّةِ مِن حَدَاثتِهَا. كانت مِن عَائِلَةٍ مَسيحيَّةٍ ونَالَتِ العِمَاد. ولَكن هَل كانَتْ حَقًّا مَسيحِيَّة؟ هَلِ المَسيحِيَّةُ تَسجيلٌ في سِجِلِّ القَيدِ، وطَقسٌ مِن دُونِ عَيشٍ؟ طبعًا لا.
كانَت تُناهِزُ الثَّلاثِينَ مِن عُمرِهَا عِندمَا عَمدَتْ إلى الذَّهابِ إلى أُورَشليمَ، بعدَ أن سَمِعَتْ عَن عُودِ الصَّليبِ الّذي وَجَدتْهُ القِدِّيسةُ هِيلانَة، والّذي كَانَ يَتَبرَّكُ مِنهُ المُؤمِنُونَ في كَنيسَةِ القِيامة.
عَجيبٌ أمرُها، كَانَت مَا تَزالُ في الدَّعارَةِ وهِيَ تُريدُ الحَجَّ! لا بَل قد تَكُونُ مَارَسَتِ البَغاءَ في السَّفينَةِ أثنَاءَ إبحَارِهَا إلى الأراضي المُقَدَّسة. مَا هذا التَّخبُّطُ وازدِوَاجِيَّةُ المَسلك! ألا نحذو حَذوَهَا نحن أيضًا في كَثيرٍ مِنَ الأحَيان؟ هَل هُوَ صِراعٌ داخِلِيٌّ أمِ انقِسامٌ أمْ تَهاوُنٌ أم اختِلاطٌ أم ماذا؟.
فَورَ وُصولِهَا تَوجَّهَتْ مُباشَرَةً إلى الكَنيسة. وهُنا حَصَلَ ما لم يَكُن في الحِسبان. كانَ الرَّبُّ بانتِظَارِها، إذ أنّ قُوَّةً غيرَ مَنظُورَة كانت تَمنَعُهَا مِنَ الدُّخُولِ في كُلِّ مَرَّةٍ كانَت تُحاوِلُ فيها عُبُورَ البَاب.
ما الّذي كَانَ يَحصُلُ مَعَها؟ الجَوابُ تَحدِيدًا في كَلِمَةِ "عُبُور".
اللهُ لا يُريدُنا أن نَعبُرَ إليهِ بِالجَسدِ فَقَط. كمَا لا يُريدُنا أن نَخرُجَ مِنَ الكَنيسَةِ كَما دَخلْناها، لابِسِينَ الإنسَانَ العَتيق، بل أن نَكُونَ مَعَهُ خَليقَةً جديدة.
الرَّبُ يَسأمُ الفُولكلورَ المُزيَّف. فَليسَ المُهِمُّ أن نَدخُلَ الكَنيسَةَ، بل أَن يَدخُلَ صَاحِبُ الكَنيسَةِ قلبَنا، ونُصبِحَ نحنُ المَذبَح.
كانت مُمانَعَةُ الرَّبِّ لَها حَركَةَ عَطفٍ ومَحبَّةٍ وحَنانٍ وشَوقٍ لِلُقيَاها. اللهُ أبٌ حَنونٌ يَنتَظِرُ عَودَةَ أبنائِهِ إليهِ لِيَضُمَّهُم إلى صَدرِه. نَحنُ أيقُونَاتُهُ مَهما لَطَّخَتْنا الخَطيئَة.
هُنا بِالذَّاتِ شَعرَتْ مَريمُ بِأنَّها لا تَستَحِقُّ أن تَدخُلَ وتَسجُدَ للمَصلُوبِ، وفي الوَقتِ نَفسِهِ أحسَّتْ بِنَهرِ مَحبَّةٍ يَنتَظِرُها ليَغسِلَ لَها كُلَّ ذُنوبِها.
فَهذِهِ المَرَّةُ ستَتَعرَّى ولَكِن لِتدْخُلَ مُخدَعًا آخرَ، مُخدعًا إلهيًّا وخِدرًا سَماويًّا، حيث يَنتَظِرُها العَريسُ السَّماويّ، الخَتنُ، ليَختِمَها بِنَارِ مَحبَّتِهِ الّتي ستَنزَعُ عَنها كُلَّ إثم. عندهَا قالَت، هَا أنذا يا ربُّ، ضُمَّنِي إلَيكَ، فإنّي لم أَذُقْ طَعمَ هَذا العِشقِ في كُلِّ أيَّامِ حَياتي.
وَبِلَمحةِ بَصَرٍ، رأتْ كُلَّ حَياتِهَا السَّابِقَةِ تَمُرُّ أمامَ عَينَيهَا وتَختَفِي في أُفُقٍ بَعيدٍ وشَمسٌ جَديدةٌ تُشرِقُ في حَياتِها. فَبَعدَ أن كَانتْ تَرزَحُ تَحتَ ثِقَلِ خَطايَاها، أصبَحَتْ خَفِيفَةً كَالمَلاكِ تركُضُ نَحوَ الصَّليبِ وتُقَبِّلُهُ قُبلَةً صَادِقَة لا غِشَّ فِيها.
لَقد تَمَّتِ الوِلادَةُ، والآنَ سَتأتِي مَرحَلَةُ النُّمُو. تَمامًا كَالطِّفلِ عِندمَا يَخرُجُ مِن رَحِمِ أُمِّه. لَقد صَرخَتْ صَرخَةَ الحَياةِ الجَديدَةِ، وعَانَقَها المَصلُوبُ لِتبدَأَ مَرحلَةً جَديدة مع يسوع الذي هو الحياة.
فَورًا إلى البَرِّيَّةِ. هَذا مَا فَعلتْهُ. سَبعًا وأَربَعينَ سنَةً نَسكَتْ تَقتَاتُ مِثلَ الطُّيور. هِيَ الّتي كانَت تُعَطِّرُ نفسَها سَابِقًا بأثمَنِ العُطورِ، باتَتِ اليَومَ هَيكلًا عَظمِيًّا بِالكَادِ يَستُرُهُ مَا تَبقَّى عَليهَا مِن ثِيابٍ رَثّة.
هذا لَيس كُلَّ شَيءٍ، فَخُروجُها مِن هَذِهِ الحَياةِ تَكلَّلَ بِتنَاوُلها القُدُساتِ عَلى يَدِ راهِبٍ كَانَ قد دَخلَ البَرِّيَّةَ كَعادَةِ الرُّهبَانِ فِي صَومِ الفِصح.
تَناوَلَتْ وانتَقَلَتْ بَعدَ رِحلَةِ تَوبَةٍ لتَلتَقِيَ مَعشوقَها. ألا تَقرَّبنَا نَحنُ بِعشقٍ مُمَاثِلٍ ونَحنُ نَلتَهِمُ القُدُسَات؟.