بـ"صفر" خسائر، أقلّه حتى الآن، اجتاز تيار "المستقبل" امتحان الخروج من "جنّة الحكم"، والانتقال إلى مقاعد المعارضة التي يرى كثيرون خلفها "خديعة" يصعُب أن تنطلي على أحد، خصوصاً أنّ "الخطوط الحمراء" التي حدّدها رئيس الحكومة السابق سعد الحريري منذ اليوم الأول، ولا سيّما على مستوى "ودائعه" في السلطة، لم تُمَسّ من قريب أو بعيد.
قد يكون "التحدّي" الأكبر الذي واجهه الحريري تمثّل في التعيينات المصرفيّة والماليّة التي وُضِعت على الطاولة الحكوميّة الأسبوع الماضي، قبل أن تُرحَّل بالضربة القاضية. هنا، رفع الرجل الصوت عالياً، مهدّداً بالويل والثبور وعظائم الأمور، وصولاً حتى التلويح بالاستقالة من البرلمان، في خطوةٍ فُسّرت رمزياً بالسعي لقلب الطاولة على الجميع.
رُحّلت التعيينات، وعاد الحريري إلى صمته "البنّاء"، بل أرفقه بشهادة "حسن سلوك" للحكومة على خط عودة المغتربين، أراد من خلالها ضرب أكثر من عصفورٍ بحجر، سواء لجهة توجيه رسالة "تقدير" للمعنيّين للحفاظ على "مصالحه"، أو لجهة إثبات "حسن النوايا" في التعامل مع الحكومة، بعيداً عن الأحكام المسبقة أو الجاهزة.
لكن، هل انتهت "المعركة" عند هذه الحدود، أم أنّها مستمرّة بتصميمٍ وحزمٍ لا يخفيه خصوم الحريري داخل الحكومة؟ وأيّ خياراتٍ يمكن أن يعتمد الرجل ضمن "عدّة" المواجهة؟!.
نوايا مبيّتة؟!
منذ خروجه من الحكم، تعرّض تيار "المستقبل"، ومن خلفه رئيس الحكومة السابق سعد الحريري، للكثير من الانتقادات، متفوّقاً في الكثير من الأحيان على أركان ومكوّنات الحكومة نفسها، وذلك باعتبار أنّه لم يقدّم نموذجاً معارضاً "فريداً"، بل بدا لكثيرين وكأنّه يضع "رِجلاً" في صفّ المعارضة، وأخرى في السلطة، أو ربما في "المنطقة الرمادية"، أملاً بالعودة إلى "جنّة الحكم" في أقرب فرصة، وهي التي يعتقد أنّها أقرب ممّا يتصوّر بعض الخصوم.
ولعلّ خير دليلٍ على "رماديّة" الأداء "المستقبليّ" تتمثّل في عمله، بشكلٍ أو بآخر، ضدّ "وحدة" المعارضة، على رغم كلّ المساعي التي تمّ الترويج لها في فترةٍ معيّنةٍ لإمكان خلق "جبهةٍ" متماسكة تجمع المعارضين على خطٍ واحدٍ، قد يختزل بين طيّاته إعادة إحياء ما كانت تُعرَف بقوى الرابع عشر من آذار. ويُضاف إلى ذلك الموقف "الملتبس" الذي لعبه التيار "الأزرق" في أكثر من استحقاق، وصولاً إلى حدّ تقديم "الخدمات" للحكم على حساب المعارضة، كما حصل مثلاً حين أسهم في تأمين "النصاب" في جلسات الثقة والموازنة، بعيداً عن بعض المواقف "الشعبوية" التي أطلقها نوابه، والتي اعتُبِرت "هامشيّة" إزاء ما سبق.
كلّ ما سبق يربطه المحسوبون على تيار "المستقبل" بوجود "غرفة عمليّات" واضحة الأهداف، المُعلن منها والمُضمَر، بعنوان خنق التيار "الأزرق" أولاً، وخلف ذلك ضرب "الحريرية السياسية"، وهم يغمزون في ذلك من قناة "التيار الوطني الحر" الذي يجهد رئيسه الوزير جبران باسيل، لتصوير السياسات الاقتصادية التي أرستها هذه "الحريريّة"، وكأنّها "أصل البلاء"، بخلاف القناعات التي كانوا يمارسونها العام الماضي مثلاً، حين كانوا يتغنّون بـ "الشراكة" التي أنتجتها "التسوية الرئاسية"، ويرون فيها "إنقاذ لبنان".
ومع أنّ "الوطنيّ الحُرّ" يصرّ على نفي مثل هذه "الرواية"، مذكّراً بأنّه لطالما صوّب على السياسات "الحريريّة" بشهادة "الإبراء المستحيل"، وأنّه من جرّ "المستقبل" إلى خندقه بموجب "التسوية" وليس العكس، فإنّ "المستقبل" يتحدّث عن نوايا "مبيّتة" لدى باسيل اليوم لضرب "المستقبل"، وصولاً إلى محاولة "عزل" الحريري، إن استطاع إلى ذلك سبيلاً، وهو ما ترجم بوضوح في التعيينات المصرفيّة، التي حاول وضع اليد بالكامل عليها، من دون أن ينجح في ذلك، أو حتّى في تصريحات قياديّيه، وعلى رأسهم باسيل نفسه، الذي تحدّث صراحةً عن مواجهة "منظومة سياسية مالية قائمة في البلد منذ بداية التسعينات".
سيناريوهات مفتوحة...
بالنسبة إلى تيار "المستقبل"، لا يخفى على أحد أنّ الحريري لعب دوراً أساسياً في "ترحيل" التعيينات المصرفيّة التي كانت مطروحة الأسبوع الماضي، ولو أنّ تأجيل البتّ بها جاء بعناوين شعبوية فضفاضة، بعدما "فضحت" نهج "المحاصصة" الذي ادّعت الحكومة السير بعكسه، فإذا بها تقع في "فخّه" عند الاستحقاق الأول.
ويرى هؤلاء أنّ رئيس الحكومة حسّان دياب يدرك أنّ أسلوب "النكايات" مع الحريري أو غيره لن ينفع، وأنّ الانجرار إليه بدفعٍ من بعض القوى، ولو كانت تشكّل "ثقل" حكومته، لن يسعفه في ترك سجلّ "نظيف"، إن جاز التعبير، علماً أنّ حرص دياب على نفي "نوايا" المسّ ببعض المحسوبين على الحريري، منذ وصوله إلى السلطة، على غرار المدير العام لقوى الأمن الداخلي اللواء عماد عثمان، أو حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، وغيرهما، كان واضح الدلالات بصورةٍ أو بأخرى.
مع ذلك، فإنّ "المستقبل" مستعدٌّ، بل متأهّبٌ لكلّ السيناريوهات، وفق ما يؤكّد العارفون، علماً أنّ خطّةً كانت مرسومة لمواجهة أيّ تعييناتٍ قد لا تكون على خاطره، وهي ستبقى مطروحة على الطاولة، طالما أنّ محاولات "العزل" لم تنتهِ. ويكتفي هؤلاء بالقول إنّ كلّ "الخيارات" واردة في هذه الخطّة، بما فيها إمكان الاستقالة من البرلمان، ولو قلّل البعض من شأن هذه الخطوة، التي كانت أصلاً مطلباً جماهيرياً وشعبياً عاماً، إبان "الانتفاضة" الشعبية التي انطلقت في السابع عشر من تشرين الأول، والتي يراهن "المستقبليّون" على أنّها عائدة، عاجلاً أم آجلاً، خصوصاً أنّ صورة ما بعد "كورونا" تبدو أكثر من قاتمة على كلّ المستويات.
وإذا كان المحسوبون على التيار "الأزرق" على يقين، كما يقولون، بأنّ كلّ محاولات العزل لن تنجح، بل إنّها ستنقلب على أصحابها، تماماً كـ"السحر" الذي ينقلب على "الساحر"، باعتبار أنّ الحيثيّة التي يملكها الحريري تبقى "عصيّةً على الخرق أو الكسر"، كما يقولون، فإنّ البعض يرى أنّهم ينطلقون في ذلك من أنّ "الأصدقاء" داخل الحكومة لن يسمحوا بتجاوز "المحظورات"، وعلى رأس هؤلاء رئيس مجلس النواب نبيه بري بالدرجة الأولى، وكذلك رئيس تيار "المردة" سليمان فرنجية، وهما اللذان لا يبالغ البعض بالقول إنّهما يخوضان من داخل الحكومة معركة "بالوكالة" عن الحريري، في وجه باسيل، ولن يتأخّرا في تمهيد الطريق لعودة "الشيخ سعد" متى سنحت الفرصة، وتوافرت المقوّمات المطلوبة.
"بطولات وهميّة"؟!
لا تنتهي "عجائب وغرائب" السياسة اللبنانية، حتى في زمن "كورونا".
هكذا، لا يزال صعباً بالنسبة لكثيرين، التصديق بأنّ الحريري بات اليوم في المعارضة، ليس فقط لأنّ بعض من هم في الحكومة ينجحون في "المزايدة" عليه أصلاً، ولكن قبل ذلك، لأنّ أداءه لا يوحي بذلك بالمُطلَق، بعيداً عن الشعارات الرنّانة التي تُرفَع بين الحين والآخر.
يقول البعض إنّه كما أنّ للحريري "ودائع" في مختلف المواقع "الحسّاسة" في الدولة، فإنّ له "ودائع" أيضاً، إن جاز التعبير، داخل الحكومة، يخوضون المعارك نيابةً عنه، وهم لن يتوانوا عن "الإطاحة" بالحكومة عن بكرة أبيها، إذا كان في ذلك مصلحة له.
وبين معارك "الأصالة والوكالة"، تبقى معركة "كورونا" فوق كلّ هذه الاعتبارات، معركة يأمل اللبنانيون أن تبقى في الصدارة، لأنّ زمن "البطولات الوهميّة" قد ولّى، أقلّه مؤقتاً...