لن تمر تداعيات فايروس كورونا من دون ترسيخ بصمات في كل المساحات. فرضت مداهمة الفايروس تغييرات مجتمعية كبيرة. أعادت الناس إلى بيوتهم، بعدما غادرتها مجتمعات ضمن المنظومة التفكيكية التي قامت إنطلاقاً من المجتمع الغربي، لتعود المجتمعات نفسها إلى التلاحمية العائلية على طريق منع التخالط مع الخارج لصد الإنتشار الفايروسي. بدّل تمدد كورونا من ثقافات عالمية قائمة على أساس أن الدول الغنيّة قادرة على الإطاحة بأي خطر صحي أو إقتصادي او عسكري. فبانت المخاطر في تلك الدول أكثر منها في جغرافيات فقيرة او عالم ثالث. وإذا إستحضرنا مثالاً بالمقابل، يُمكن القراءة في أبعاد طلب الجمهورية الإسلامية الإيرانية قرضاً مالياً من صندوق النقد الدولي لمواجهة التحديات الناتجة اساساً من العقوبات الغربية على طهران والتي أظهر كورونا نتائجَها الكارثية. لا يمكن المرور عند هذا المطلب الإيراني، من دون التوقف مطولاً عند أبعاده، وما يتبعه. هو مطلب محق تُقدم عليه أي دولة في العالم. لكن المفهوم الإيراني كان يقوم بعد الثورة الاسلامية على الإستناد الى قدرات الدولة الايرانية، لا الغرب. لكننا الآن صرنا في عصر المتغيرات وتبدّل التوجهات، فالعواصم إستفاقت ايضاً على مفاجأة مدوّية: الأولوية لم تعد لميزانيات الدفاع والهجوم والسلاح على أنواعه، بل لنظام إستشفائي صحي حالياً، ولأسس إقتصادية معيشية ثورية الآن وغداً.
هو الغد الذي سيُتعب الشعوب بعد كورونا، على كل صعيد، لأنه يطال تفاصيل يوميات الناس: اولاً، الوضع المعيشي وما يتفرّع عنه من بطالة وفقر وآثار مجتمعية. ثانياً، كيفية تحصيل الشعوب لحقوقها بعد الأزمة، نتيجة خسائر بالغة تطال جميع المجتمعات والطبقات. الأخطر من مواجهة الازمة هي التداعيات الآتية تحت عنوان: ضاعت الحقوق.
يومياً يئن الناس من إطاحة الأزمات المستجدة بمصالحهم، وبالتالي مصادر أرزاقهم، وهم مرتبطون ببعضهم ضمن سلسلة مكتملة الحلقات. تعطّلت مؤسسة او شركة، افلست، فأقفلت ابوابها، وأوقفت عمالها عن العمل، وصرفتهم تعسفياً أو بالتراضي. هنا لم يعد بمقدور العامل تلبية مستحقات معيشته: إيجار، ديون، وعود، تأمين سبل الحياة لأفراد العائلة. سيتم لجوء كل عنصر من تلك العناصر إلى القضاء الذي سينتظر كميات كبيرة من الدعاوى القانونية على ابواب قصور العدل. هل ستتحمّل المؤسسات القضائية في أي دولة حجم الدعاوى القانونية المتدفقة؟ بالطبع، لن يكون بمقدورها البت بكل ذلك، ولو بعد سنوات. ولنفترض انها تستطيع الحكم. فكيف يمكن تطبيق النصوص على واقع مأساوي مترابط؟ ستختلف تلك النصوص عن روحية الواقع ونتائج الأزمة. لا قدرات على دفع التعويضات، ولا سجون تتسع او تفي بالغرض.
عندها تُصبح الوساطة هي الحل الأنسب. وهو مفهوم تعززه تداعيات الأزمة الحالية. لتُصبح الوساطة على أنواعها هي السبيل الوحيد لمعالجة نتائج كارثية آتية، تحت طائلة حصول مزيد من التداعيات. فلا قدرة للمحاكم على إصدار أحكام وفق حجم الدعاوى المرتقبة، ولا يُمكن اساساً النظر بقضايا تعجز النصوص عن مقاربة روحيتها ذات الأبعاد الإنسانية.
على هذا المقياس، سيكون العنوان نفسه قائما بين الدول، وبين صناديق دولية وعواصم، وبين شركات وفروع عابرة للقارات، ووكلاء. ستزداد تداعيات الأزمات في عالم متغير يفرض شروطاً ووقائع مغايرة نتيجة أزمات يشكل فايروس كورونا أحد محطاتها، ليُظهر او يسرّع او يُنتج الفايروس أزمات عدّة متلاحقة.