رغم الضربات المتلاحقة التي يوجّهها وباء «كورونا» للاقتصاد العالمي، ما جعل التوقعات قاتمة حول المرحلة المقبلة، إلّا أنّ المجموعة المكلّفة متابعة الملف اللبناني في صندوق النقد الدولي، لا تزال تتابع درسها السبل الآيلة لإنقاذ الاقتصاد اللبناني. وتبدو هذه المجموعة قلقة جداً من التأثيرات السلبية، نتيجة حال التعبئة العامة على الاقتصاد اللبناني المترنح اصلاً، والذي وصل الى مراحل خطيرة جداً.
يتردّد انّ المشاريع التي يضعها فريق صندوق النقد الدولي من المفترض ان تصبح جاهزة في ايار المقبل او مطلع حزيران على ابعد تقدير، ذلك انّ الكارثة الاقتصادية التي يعاني منها لبنان، باتت تهدّد جدّياً بانهيار ركائز الدولة اللبنانية والأسس التي تقوم عليها.
وفي الواقع، فإنّ عرضاً سريعاً للصورة الاقتصادية، يلخّص حجم الكارثة الاقتصادية التي تكاد تخنق لبنان.
ووفق الارقام، فإنّ الودائع المالية الموجودة لدى المصارف اللبنانية انخفضت من نحو 170 مليار دولار الى 147 مليار دولار، بعد نزيف الدفع اليومي للمودعين والتحويلات التي حصلت الى الخارج. لكن المشكلة، انّ هذه الارقام هي ارقام دفترية، اي على الورق، فيما لا تملك المصارف اكثر من مليارين او 3 مليارات من الدولارات نقداً في الخارج.
في موازاة ذلك، فإنّ مصرف لبنان صرّح أنّ السيولة الموجودة لديه تبلغ زهاء 21 مليار دولار، والتي تشمل ضمناً الحسابات الجارية بين مصرف لبنان والدولة اللبنانية، او الديون التي لمصرف لبنان على الدولة اللبنانية.
ما يعني انّ الرقم الفعلي لسيولة مصرف لبنان هو نصف المبلغ الذي اعلنه، وبالتالي يصبح المجموع الفعلي لموجودات العملات الصعبة ما بين المصارف اللبنانية ومصرف لبنان نحو 15 مليار دولار في افضل الحالات. ومعه، فإنّ على لبنان تسديد فواتير واستحقاقات حياتية سنوية ملحة، مثل الفاتورة النفطية، والتي تبلغ نحو ملياري دولار، وفاتورة استيراد الدواء والاستشفاء، والتي تبلغ نحو مليار ونصف مليار دولار، وفاتورة استيراد المواد الغذائية والتي تقارب المليارين ونصف مليار دولار، اضافة الى فواتير اخرى ملحّة مشابهة. وهو ما يعني انّ ما بقي من موجودات نقدية فعلية ستختفي بكاملها السنة المقبلة.
تلك الصورة السوداء للواقع المالي في لبنان بحاجة الى خطة إصلاح ملحة، تقضي قبل كل شيء الاعتراف بالواقع الحالي، ومن ثم الإقرار بأنّ ثمة اجراءات موجعة جداً لا بدّ من اتخاذها، وانّ المرحلة الصعبة او مرحلة الطوارئ والمعالجة، ستستمر لفترة طويلة، لن تقلّ عن 7 سنوات في افضل الحالات. فلبنان يرزح تحت عبء ديون تتجاوز الـ90 مليار دولار، اضف اليها ديون المصرف المركزي الفعلية، والتي تقارب الـ30 مليار دولار.
في المقابل، فإنّ الناتج القومي للبنان تراجع نحو 55 مليار دولار في العام الماضي الى نحو 40 مليار دولار لهذه السنة وفق التوقعات السائدة. ما يعني انّ خسائر لبنان هي في حدود 80 مليار دولار. ومن هنا ينطلق الخبراء في وضع خططهم لوقف الانهيار، مستندين الى الودائع المالية الموجودة في المصارف، والتي تنقسم ما بين نحو 20 مليار دولار موضوعة بالعملة اللبنانية، و120 مليار دولار بالعملات الاجنبية.
ما يعني في نهاية الامر وجود نحو 100 مليار دولار ودائع دفترية لا نقدية، يجري البحث في سبل ايجاد حلول لها. ومن هنا كثر الحديث عن استعادة تجارب سابقة لبلدان عانت حالات إفلاس مشابهة، واعتمدت حل الـ haircut او «قصّ الشعر».
وعلى الرغم من النفي المتكرّر والصادر عن عدد من الجهات الرسمية، الّا انّ العارفين يتحدثون عن وجوب إيجاد مخارج مقبولة لتطبيق نظرية «قص الشعر» وفق نسبة الـ 30 % على الودائع التي تفوق الـ200 الف دولار، وهو ما يخفف عن كاهل الدولة نحو 30 مليار دولار، اضف اليها اقتطاع نحو 15 مليار دولار من اصل 20 مليار دولار هي رأسمال المصارف. ويجري البحث في وضع محفظة مالية تحوي مؤسسات مثل «كازينو لبنان» وغيره، إضافة الى الاملاك البحرية واراضٍ تملكها الدولة، وأن يجري منح الودائع الخاضعة لعملية «قص الشعر» أسهماً في المقابل.
كذلك ان يتمّ فوراً اعتماد حلّ فعلي وجدّي للكهرباء، عبر تلزيم القطاع لشركة عالمية تتولّى إعادة اصلاح الوضع بالشراكة مع الدولة اللبنانية، وهو ما يجنّب خسارة سنوية تقارب الملياري دولار. أضف الى ذلك، إقرار قانون جديد للرواتب التقاعدية لموظفي القطاع العام، على ان تتمّ اعادة ترتيب موظفي القطاع العام وصرف غير المنتجين منهم، إضافة الى ملف التهرّب الجمركي، من خلال الإمساك بالمعابر الجوية والبحرية والبرية للبنان بنحو حازم وحاسم.
من الواضح، انّ كل بند من هذه البنود سيؤدي الى مواجهة مباشرة وعنيفة مع اطياف الطبقة السياسية التي تعتاش سياسياً وتستفيد هي مباشرة من حال التفلت الحاصلة. والواضح انّ كل الموازنات التي حصلت كانت تكرّس بالتكافل والتضامن جوانب اساسية من الاهتراء الداخلي ومن تشريع ابواب الفساد والسرقة.
كل هذه البنود، إضافة الى بنود اخرى، يحتاجها صندوق النقد الدولي قبل ان يعمد الى ضخ السيولة في شرايين الاقتصاد اللبناني بمبالغ قد تفوق 10 مليارات دولار. والأهم، اعادة بناء اقتصاد منتج تماماً، كما أوصت دراسة «ماكينزي» التي استنجد بها يومها وزير الاقتصاد السابق رائد خوري، وبالتالي فإنّ المطلوب إعلان وفاة النموذج الاقتصادي اللبناني المعروف تاريخياً باستقدام الاموال من الخارج، وهو ما كان يُعرف بالمعجزة اللبنانية، والذي كان يتضمن ايضاً مساراً داخلياً، وفق فلسفة الزبائنية السياسية والفساد المالي. ومعه يجب إنتاج نموذج اقتصادي جديد يرتكز على الانتاج الوطني. مع الاشارة ايضاً، الى أنّ المرحلة الانتقالية، او ربما المرحلة التأسيسية، قد تطول لمدة تراوح بين 7 و10 سنوات، قبل عودة لبنان الى وضع مالي واقتصادي طبيعي، هذا اذا تمّ تنفيذ الخطة بنحو جدّي وفعلي وحقيقي.