بات من المسلّم به، أنّ العالم ما قبل كورونا لن يكون هو ذاته ما بعد كورونا… إنّ الحرب العالمية ضدّ فايروس كورونا، مثل كلّ الحروب العالمية، والأزمات التي أصابت البشرية، ستكون لها نتائج وتداعيات على العلاقات الدولية والنظام العالمي، تعكس موازين القوى الجديدة المتولدة عنها.. هذا ما حصل في أعقاب انتهاء الحرب العالمية الثانية حيث خرجت كلّ من الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد السوفياتي كأكبر قوّتين في العالم، فولد نظام عالمي ثنائي الأقطاب، وكذلك بعد انتهاء الحرب الباردة بين الدول الغربية بقيادة أميركا، وبين الكتلة الشرقية بقيادة الاتحاد السوفياتي، انهار الأخير وتفكك، وولد نظام دولي جديد أحادي القطب بقيادة الولايات المتحدة.. ولهذا فإنّ الحرب العالمية الجديدة في مواجهة كورونا سوف تؤدّي إلى تغييرات سياسية واقتصادية تسهم في تسريع تحوّل السلطة والنفوذ من الغرب إلى الشرق، كما قالت مجلة «فورين بوليسي»… لا سيما أنّ العالم، قبل بدء الحرب مع كورونا، كان يشهد تحوّلات في موازين القوى الاقتصادية والعسكرية والسياسية، تدلل على بداية انتقال مركز الثقل في القرار الاقتصادي والمالي والسياسي من الغرب إلى الشرق، لا سيما بعد فشل حروب أميركا في أفغانستان والعراق من ناحية، وفشل الحروب الإرهابية بالوكالة لإعادة تعويم مشروع الهيمنة الأميركي على العالم من ناحية ثانية، وتجسّد هذا الفشل في انتصار سورية وحلفائها في محور المقاومة، وروسيا، في الحرب ضدّ جيوش الإرهاب والدول الداعمة لها.. وأصبح من الواضح أنّ السياسة الأميركية دخلت في مرحلة تخبّط واضطراب، تحاول إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب إخراجها منها واعادة تأكيد الهيمنة الأميركية من خلال استخدام آخر سلاح بيدها وهو سلاح الهيمنة على النظام المالي العالمي الذي تأسّس بعد الحرب العالمية الثانية، حيث تتحكّم واشنطن بنظام التحويلات المالية بالدولار العملة الأكثر تداولاً في العالم في عقد صفقات بيع النفط والسلاح والمبادلات التجارية.. وعبر هذه الهيمنة لجأت واشنطن إلى فرض الحصار المالي إلى جانب الحصار الاقتصادي ضدّ الدول التي ترفض هيمنتها ونجحت في اضعافها، وفي طليعة هذه الدول روسيا وإيران وسورية وفنزويلا، وكوبا..
وإذا كانت الدول التي تواجه الهيمنة الأميركية، وتعمل، قبل حرب كورونا، على كسر هذه الهيمنة الأميركية من خلال إقامة تحالفات دولية، عسكرية واقتصادية وتكريس التبادل التجاري بالعملات الوطنية، بديلاً عن الدولار، وكذلك إنشاء بنك وصندوق دوليّين في مقابل صندوق النقد والبنك الدولي اللذين تهيمن عليهما أميركا ويشكلان أداتها المالية لإخضاع الدول والسيطرة على قرارها الاقتصادي.. فإنّ هذه الدول، خلال وبعد حرب كورونا، قد خطت خطوات نوعية جديدة لإنهاء هذه الهيمنة، وتأكيد حضورها ودورها الدولي القيادي الذي يقوم على تكريس علاقات دولية تشاركية وتعاونية تنطلق من احترام القوانين والمواثيق الدولية، بل ويقدّم نموذجاً في العلاقات الإنسانية، مناقضاً تماماً للنموذج الأميركي النيوليبرالي الخالي من القيم والعلاقات الإنسانية.. وظهر هذا الحضور والدور من خلال الخطوات التالية..
أولاً، المبادرة، حيث امتنعت وتخاذلت الولايات المتحدة، الى المسارعة لتقديم العون والمساعدة للدول التي تعرّضت لكارثة نتيجة انتشار وباء كورونا فيها، مثل إيطاليا وإسبانيا وإيران وفرنسا إلخ… بل والتعاون لأجل إيجاد لقاح مضادّ لهذا الفايروس.. وهو ما ترك أثراً عميقاً إنسانياً لدى شعوب هذه الدول وكذلك لدى شعوب العالم.. فيما ساد الغضب والتنديد بالسياسة الأميركية إزاء التخلي عن تقديم المساعدة لهذه الدول، والتصرف بطريقة تتنافى والقيم الإنسانية من خلال سعي ترامب بداية إلى استغلال الوباء لعزل الصين وإضعاف اقتصادها عبر وصف الفايروس بـ «الفايروس الصيني»، ومن ثم السعي الى احتكار لقاح يعمل على إنتاجه علماء ألمان، في محاولة لابتزاز العالم وتحقيق الأرباح المالية الضخمة من ورائه.. مما أظهر ترامب وإدارته بمظهر قبيح ووحشي يعكس الطبيعة المعادية للإنسانية التي تتميّز بها السياسات النيوليبرالية.. التي تسبّبت أيضاً في ترك الشعب الأميركي يواجه انتشار الوباء بهذا الشكل الكارثي..
ثانياً، هذا الأداء المتميّز لكلّ من الصين وروسيا وكوبا، في مساعدة البشرية على مواجهة كورونا، جعلها تتقدّم الصفوف على المستوى الدولي في إدارة الحرب ضدّ كورونا، فيما واشنطن التي تعتبر نفسها زعيمة العالم، تخلت او تقاعست عن القيام بهذا الدور، وهو ما جعل وزير الخارجية الأسبق هنري كسينجر يحذر من خطورة ونتائج فشل أميركا في إدارة الأزمة، مشيراً إلى أنّ التحدي التاريخي للقادة هو إدارة الأزمة وبناء المستقبل، وأنّ الفشل يمكن أن يحرق العالم.. في حين رأت نائبة المدير العام للمعهد الدولي للدراسات الإستراتيجية، كوري شاك، أنّ عالم ما بعد فايروس كورونا لن يشهد استمرار زعامة الولايات المتحدة للعالم.
وقالت شاك في توقعاتها التي نشرتها «فورين بوليسي»، إنّ العالم لن ينظر إلى الولايات المتحدة بعد الآن كقائد دولي نظراً لسلوك الإدارة الأميركية الذي يقوم على تغليب المصالح الذاتية الضيقة وافتقار تلك الإدارة الفادح للكفاءة.. أما كيشور محبوباني، الباحث في معهد آسيا للبحوث بجامعة سنغافورة الوطنية ومؤلف كتاب «هل فازت الصين؟» حول تحدّي الصين للهيمنة الأميركية، فيرى، انّ جائحة كورونا، «ستسهم في تسريع تغيير كان قد بدأ بالفعل، هو الانتقال من العولمة التي تتمحور حول الولايات المتحدة إلى عولمة تتمحور حول الصين».. في المقابل توقع جون آلن، مدير معهد بروكينغز، أنّ المنتصرين في المعركة ضدّ فايروس كورونا القاتل هم من سيتسنّى لهم كتابة التاريخ كما هي الحال عبر تاريخ البشرية.
ثالثاً، في هذا الوقت حصل حدث مهمّ في دلالاته لناحية الانتقال إلى خطوة عملية طالما انتظرتها معظم دول العالم، للتخلص من هيمنة الدولار، وهذه الخطوة تمثلت في إعلان الدول الثماني الأعضاء في منظمة شنغهاي للتعاون الاقتصادي، بما في ذلك الصين وروسيا والهند، قراراً باعتماد العملات المحلية والوطنية في التبادل التجاري والاستثمار الثنائي وإصدار سندات، بدلاً عن الدولار الأميركي، ما ينهي عقوداً طويلة من الهيمنة الأميركية على العالم في التجارة والذهب والتعاملات النفطية، بحسب ما أوردته شركة خدمات التحليل الاستراتيجي عبر أوراسيا «سيلك روود.. أهمية هذه الخطوة وأثرها يتأتيان من كون الدول المذكورة تشكل ثقلاً سكانياً عالمياً يتجاوز نصف سكان العالم، وتحوز على قدرات وموارد اقتصادية وثروات نفطية وغازية ومعدنية هائلة وتملك التقنيات المتطورة في التكنولوجيا، والأبحاث العلمية، وتحوز على قدرات عسكرية منافسة بقوة للقوة الأميركية الغربية.. ما يجعل القرار له أثر كبير على التبادلات التجارية، ويؤدّي إلى تراجع كبير في اعتماد الدولار في العلاقات التجارية بحجم ما لهذه الدول من وزن ودور في الاقتصاد العالمي..
من هنا فإنّ نتائج حرب كورونا سوف تشكل محطة فاصلة في تاريخ العالم، وتكرّس التحوّلات الدولية وموازين القوى الجديدة وبالتالي إعادة بناء النظام العالمي على أساس هذه الموازين التي تفرض التعددية في العلاقات الدولية بديلا من الأحادية…