أضاعت الدول سندات ملكيّة الكرة الأرضيّة وبان التنافس والتقاتل على لف التاريخ تحت إبط الأباطرة وهماً فاتلاً، وبدت الإمبراطوريات تسير على قوائم من صلصال وتوقف الزمان ليحجر البشرية المحدّقة بهذه الدنيا بعيون زجاجية أوروبية أو أميركية أوبريطانية أو روسيّة وغيرها.
لماذا؟ لأنّ جرثومة خفيّة هشّمت مرايا السلاطين وسحبت البشرية الجذور أي Roots بالإنكليزية.
ولأنّنا اليوم ، قد نتذكّر اليوم البرتغالي فاسكو دو غامّا الأوّل الذي اكتشف طريق الهند بعدما دار حول رأس الرجاء الصالح في أفريقيا عام 1498 مستعيناً بالعرب ليهتدي طريقه في مجاهل المحيط الهندي.
ولأنّنا نتذكّر أيضاً، البحّار الإيطالي خريستوف كولومبس ( 1451؟- 1506) الذي أبحر من يالوس في 3 آب 1492 قاصداً الهند من ناحية الغرب عابراً الأطلسي في دورة نحو الجنوب والشرق حول إفريقيا ليقتنع بأنّ الأرض مستديرة، لكنّه وصل الى سان سلفادور في أميركا في 12/10 1492 مسمّياً الشعوب التي اكتشفها في أمريكا هنوداً، جازماً بكرويّة الأرض مع أنّه لم يصّل إلى الهند.
ولأننا نقيم في "عالمٍ مسطّح"، وفقاً لكتاب توماس فريدمان "The world is Flat" الذي ذهب في عصر العولمة، وذهبنا مثله نحو الهند والصين من جهة الشرق.
ولأنّه علينا فهم العالم المتغيّر أمامنا قطعاً كما هو، لا كما يجب أن يكون عبر تواريخ الدول الكبرى، لأنّ الشعوب قد تذهب في طريقٍ آخر معاكس لما رسّخته الدول الكبرى ركائز للحضارة. ولأنّ الإنسان المعاصر يخرج من الأقفاص الغربيّة في التفكير أو من جنون العصور المقفلة القديمة في ديمومة العظمة ونفخ التاريخ الوطني.
ما الفرق بين التاريخين؟
الفرق في البحث عن الجذور التي تعسل لكنها تفرّخ من جديد!
من الكتابة شاقّة، في المعترك الذي تغرق فيه النصوص والأفكار والإجتهادات في الكورونا. هذا زمن مثير للإهتمام لأنّه يُظهر أوّلاً، حيرة عميقة علمية كونيّة، وثانياً لأنّ المشكلات العالميّة والسياسات الدوليّة والمحاولات الوطنيّة تتراكم وتنذر بانهيارات ضخمة منتظرة لها وتحدّيات فيزيائية حيوية جديدة تماماً، وثالثاً، وهو الأهم، تكتشف الجماعات العلميّة والبشرية طريقة حياة للكوكب الأرضي في تفاعلاته الفيزيائية والبيولوجية والبشرية. لنقل أنّ كل الفرضيات والنظريات تلقى اليوم تحدّيات لا يمكن توقّعها من طبيعة أو عالمٍ يتغيّر.
صحيح أنّ المناخ العام العالمي مشحون بالإتّهامات والإتّهامات المضادة بين الدول العظمى المنهكة، وصحيح أنّ الوضع يرسو ثقيلاً فوق صدور البشريّة أثقل من تطاير حبيبات الكورونا، لكنّ الأسلم ذهابي من هنا إلى مقاربة جديدة أتوخّاها تبحث في مفهوم جديدٍ للتاريخ الشمولي أو الكلّي الذي أحسن تنقيته الفرنسي فرانسوا ريناير في كتابه الذي نخل عبره 5000 سنة من تاريخ القارّات بعنوان: La grande Histoire du Monde أي " تاريخ العالم الكبير".
لا أحد يشكك بقدرات الصين العسكرية المذهلة، وبراعتها التكنولوجية واقتصادها النامي الذي سمح لها في لحظةٍ ما أن تفكّر بقذف الكرة الأرضيّة إلى فوق أو دفعها لأن تخرّ على ركبيتها. بالفعل، ما هي جذور هذه النهضة من أقاصي الشرق؟ وكيف يمكن لدولةٍ متخلّفةٍ يابسةٍ منذ قرون يتحرّك أهلها فوق العجلات، أن تنجح في تحقيق هذا التقدّم الهائل في ثلاثة قرون؟
أعتقد بأنّ الصينيين لا يطرحون أسئلةً من هذا النوع، ولا من الزوايا نفسها. هناك صورة تاريخيّة قديمة مقيمة في رأس كلّ صيني وتكاد تقرب من الحقيقة هي الحلم الإمبراطوري القديم. كانت الصين، من أعرق الحضارات حتى نهاية القرن الثامن عشر، بقواها الإقتصادية والتجارية العالميّة، وقد انهارت بين أصابع بريطانيا التي لم تكن تغرب عن مستعمراتها الشمس وقد أفلت بدورها لتحلّ مكانها القوى العظمى الأخرى في منتصف القرن التاسع عشر. لطالما كان يدرك الصينيون أنّ دولتهم، حتّى الأمس وربّما اليوم، لا تفعل سوى إغلاق القوس الحافل بالألام كي تجد لها مطرحاً فوق منصّة الدنيا ،وهو أمر طبيعي وكان كذلك على الدوام.
لقد تحوّلت أوروبا إلى قوة هائلة دفعتها تحتلّ معظم الكرة الأرضية منذ القرن السادس عشر، لكنّ انتشارها العظيم وعظمتها اندثرتا في القرن العشرين مع ركام الحربين العالميتين. جاء دور أميركا والإتّحاد السوفياتي بعظمتيهما لتتقاسما الكرة الأرضية باسم منظومتين موروثتين أساساً من العقل الأوروبيالذي استمرّ يعتبر من أنّ معرفة تاريخ أوروبا وثقافتها وقوّة عقلها مسائل كافية لفهم العالم فهي طريقة التفكير السامية التي تسمح بتعبيد السيطرة على الآخرين.
كسر سقوط الإتّحاد السوفياتي (1989) هذه الثنائية للعالم، ودفن الإدّعاءات التاريخيّة بأبديّة العظمة، وراحت البشرية تنتظر، في كلّ لحظة، قوى قديمة ناهضة مثل الصين والهند والبرازيل وأفريقيا الجنوبية وأندونيسيا والدول الإسلامية، وكلّها تغلي في قدر يضجّ بمجابهة العظمة الدولية وحتّى تفكيكها بحثاً عن المتغيّرات الآتية.
لم يتغيّر مع كورونا قطّ لكنّه يتغيّر منذ عقود وسيتغيّر أكثر فأكثر..
منذ تشظيّات العظمة المتعدّدة وبروز شهيّاتها ومخاطر تجدّدصراعاتها وحروبها في أكثر من ناحية في الأرض كما في الفضاء، كانت البشرية ويدها على قلبها، تشعر بأن العالم قد تغيّر.