انّ الحرب العالمية الدائرة حالياً في مواجهة وباء كورونا، ستفضي بالتأكيد إلى نتائج وخلاصات، تؤكد فشل منظومات ومفاهيم سائدة على المستويات الاقتصادية والاجتماعية والفكرية والثقافية، وانتصار منظومات أخرى، أو على الأقلّ تقدّمها بجدارة لتكون هي النموذج الأفضل والأمثل بالنسبة للإنسانية..
اولاً، كشف انتشار فايروس كورونا مثالب وثغرات وعورات النظام الاقتصادي الرأسمالي النيوليبرالي، حيث ظهر وعلى نحو صارخ هشاشة وضعف البنى الصحية والاجتماعية التي يقوم عليها هذا النظام، الذي روّجت له الإدارات الأميركية، بعد انهيار وتفكك الاتحاد السوفياتي، باعتباره النظام الأمثل والأحسن للعالم.. فهذا النظام فشل في مواجهة كورونا، لا سيما في الولايات المتحدة والعديد من الدول الغربية، لكونه تخلى عن دور الدولة الاجتماعي والصحي، لمصلحة الشركات الخاصة التي أثبتت بدورها انها تفتقد لأيّ وجه من وجوه الإنسانية، لأنها مبنية على مبدأ الربح والتجارة في تقديم الخدمات الطبية والاجتماعية تماماً كأيّ سلعة.. من يملك المال يستطيع شراءها ومن لا يملك يُحرم منها، وهكذا تجد الجموع من البشر، غير المالكة للقدرات المالية، تواجه المعاناة نتيجة غياب دولة الرعاية بالإنسان.. وسيطرة الشركات الخاصة…
ثانياً، لقد اتضح انّ ما كان يجري وراء الكواليس من انتهاك فاضح لحقوق الإنسان والقيم الإنسانية والمحرّمات التي تتلاقى حولها الأديان والفلسفات الإنسانية الوضعية، اصبح يتمّ اليوم في العراء وعلى المكشوف، من قبل الولايات المتحدة، زعيمة النظام الرأسمالي الاستعماري الغربي، فمن جهة تجاهر إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب في السعي لاستغلال واحتكار لقاح مضادّ لوباء كورونا يستهدف البشرية جمعاء، لابتزاز الدول وتحقيق الأرباح المالية وتوظيفها في مصلحة الشركات الأميركية الرأسمالية المختصة في صناعة الأدوية، وكذلك في سعيه توظيف ذلك لتعزيز شعبيته للفوز بولاية رئاسة ثانية.. ومن جهة ثانية يعمد ترامب إلى تشديد الحصار المالي والاقتصادي على الدول التي ترفض الخضوع للهيمنة الأميركية، على غرار إيران وسورية وفنزويلا، بهدف حرمانها من الحصول على المستلزمات والتجهيزات الطبية لمواجهة كورونا، ومن جهة ثالثة يمتنع عن تقديم المساعدة والدعم حتى للدول المصنفة في خانة أصدقاء وحلفاء أميركا، لا سيما إيطاليا وإسبانيا، ومن جهة رابعة يسارع إلى وقف المساعدات المالية التي تقدّمها الولايات المتحدة لمنظمة الصحة العالمية.. الأمر الذي يكشف قبح وبشاعة النظام الرأسمالي النيوليبرالي الأميركي ومدى عدائه للإنسانية واستباحته لحقوق الإنسان، في تعامله مع وباء عالمي لا يميّز بين دولة وأخرى او شعب وآخر، أو غني وفقير.. وكان يفترض ان تتعاون وتتكامل جهود جميع الدول لمواجهته والقضاء عليه.. غير أنّ النظام الإمبريالي الأميركي هذه هي طبيعته الحقيقية، فهو ليس لديه محرمات.. كما أنه يشنّ الحروب الاستعمارية ويرتكب المجازر بحق الشعوب لفرض الهيمنة عليها ونهب ثرواتها، وفرض سيطرته على العالم، أيضاً يستغلّ وباء كورونا ويستخدمه لمواصلة حروبه الاستعمارية ضدّ الدول التي يحاصرها، أو من أجل تحقيق مصالح الكارتيلات الاقتصادية والمالية الأميركية التي تتقدّم بالنسبة له حتى على مصلحة الشعب الأميركي، كما ظهرت نقاشات الكونغرس واقتراحات ترامب تخصيص الأموال الطائلة لإنقاذها، باعتبارها أولوية تتقدّم على أولوية إنقاذ حياة الأميركيين…
ثالثاً، أعاد فايروس كورونا تسليط الضوء على خطورة وفظاعة ما اقترفه النظام الرأسمالي الغربي، برئاسة أميركا، من تدمير للطبيعة واعتداء عليها، مما أدّى إلى إخلال خطير في التوازن البيئي لكوكب الأرض، وادّى إلى توليد الأوبئة وانتشارها.. على أنّ درس كورونا أكد ضرورة الكفّ عن هذه الاستباحة للطبيعة والعبث بقوانينها، وبالتالي العمل على إعادة النظر في التعامل مع الطبيعة من منطلق فهم قوانينها واحترامها وتجييرها لخدمة وحماية الإنسانية، والتي تتطلب في الوقت ذاته، حماية الحياة البرية والبحرية، واستطراداً الحفاظ على التوازن البيئي، والعودة إلى التصالح مع الطبيعة وعدم العبث بقوانينها..
رابعاً، دفع فايروس كورونا، جميع الشعوب للعودة إلى الاحتماء بأوطانها الأمّ وبدولتها الوطنية التي تشكل الملجأ لها في مواجهة الأخطار والأزمات الكبرى.. لقد تبيّن انّ الدولة الوطنية القائمة على منظومة الرعاية الاجتماعية والصحية هي الضمانة لتوفير هذه الحماية، وأنه حتى الدول التي تخلت عن هذه المنظومة لمصلحة القطاع الخاص، اضطرت تحت ضغط الأزمة للعودة إلى توظيف وإنفاق الأموال الطائلة لدعم القطاعات الصحية والاجتماعية، بعد أن اتضح عجز وفشل وعدم أهلية القطاع الخاص في القيام بهذه الوظيفة..
ولقد تبيّن أيضاً انّ كلّ المنظومات الدولية والإقليمية أخفقت في مواجهة حرب كورونا بطريقة موحدة، فالأمم المتحدة لم تنجح في لعب الدور المطلوب منها، ولا الإتحادات الإقليمية، مثل الاتحاد الأوروبي، وجامعة الدول العربية، ومنظمة الوحدة الأفريقية، ومنظمة آسيان إلخ… في الظهور كاتحادات متماسكة وموحدة في مواجهة كورونا.. وهو الأمر الذي سيترك تأثيره على هذه الإتحادات، خصوصاً الاتحاد الأوروبي، الذي كان أكثر ارتباكاً واضطراباً وفشلاً.. فأخفق في امتحان كورونا، عندما تخلى عن القيام بدوره كاتحاد لدعم ومساندة إيطاليا وإسبانيا وصربيا إلخ… وهي دول أعضاء في الاتحاد، وما حرق علم الاتحاد في إيطاليا سوى مؤشر على ما سيحدث ما تداعيات بعد انتهاء الحرب في مواجهة كورونا، قد يكون الاتحاد الأوروبي ضحيتها..
خامساً، إخفاق الولايات المتحدة في لعب دور القائد العالمي، وعدم قدرتها على إدارة الحرب العالمية في مواجهة كورونا.. هذا الى جانب إخفاقها على المستوى الأميركي الداخلي.. وبهذا فإنّ الولايات المتحدة تثبت مجدّداً أنها بعد أن فشلت في الاحتفاظ بهيمنتها الأحادية على العالم، وهزمت في كلّ حروبها لاعادة تعويم هذه الهيمنة، تسجل اليوم عجزها وفشلها وعدم قدرتها في القيام بدور القائد العالمي في الحرب ضدّ كورونا، وهو ما كان قد حذر منه مستشار الأمن القومي الأميركي الأسبق زبيغنيو بريجنسكي في كتابه «الاختيار» ، عندما نصح الإدارة الأميركية مبكراً، في أنها تستطيع قيادة العالم اذا ما أخذت بالاعتبار مصالح الدول الكبرى مثل الصين وروسيا والهند.. لكنها لا تستطيع فرض الهيمنة الأحادية عليه لأنها ستؤدي إلى استفزاز ودفع هذه الدول الكبرى إلى التكاتف والتوحد في مواجهة الولايات المتحدة.. وهذا ما حصل فعلياً من خلال قيام روسيا والصين بإنشاء التكتلات الدولية (منظمة شنغهاي، ومجموعة بريكس) لمواجهة جموح الولايات المتحدة لفرض هيمنتها.. وفي مقابل هذا الفشل والضعف والتراجع المستمرّ في الدور القيادي الأميركي، تقدّمت الصين محلياً وعالميا، لتحلّ مكان أميركا، يساعدها في ذلك روسيا وكوبا، في تقديم المساعدة للدول لمواجهة انتشار وباء كورونا.. على أنّ هذا التراجع في الدور الأميركي، سوف يشكل فرصة جديدة للتحالف الشرقي، بقيادة روسيا والصين إلخ… لأجل تأكيد أهمية التعاون الدولي لإعادة تشكيل النظام العالمي على أسس من التعددية والتشاركية لمواجهة الأزمات الكبرى على غرار أزمة كورونا…
سادساً، أدّت الحرب ضدّ كورونا إلى ردّ الاعتبار لأهمية اعتماد الدول على ذاتها في إنتاج الغذاء والدواء وتوفير البنى الاجتماعية والصحية، وتحقيق أمنها الصحي والغذائي والاجتماعي… في ظلّ ركود اقتصادي عالمي آخذ بالازدياد طالما استمرّ خطر انتشار كورونا الذي يشلّ آلة الإنتاج.. وهذا درس لكلّ الدول التي أهملت أنظمتها أهمية دعم الإنتاج الزراعي والصناعي وتخلت عن دولة الرعاية الصحية والاجتماعية، ومنها طبعاً لبنان.. لقد تبيّن انّ الدول التي تقوم اقتصادياتها على دعم الإنتاج ومنظومة الرعاية الصحية والاجتماعية تملك قدرة أكثر على توفير مستلزمات الصمود والتحمّل، من الدول التي تقوم أنظمتها وسياساتها على الريع والتخلي عن دور الرعاية الصحية والاجتماعية…