فيما العالم غارق في حرب مكافحة وباء كورونا، تنصرف الدوائر الامنية والديبلوماسية في بعض العواصم الى قراءة الانعكاسات السلبية الكبيرة التي ستخلّفها حرب «كوفيد 19» على الخريطة السياسية العالمية إنطلاقاً من شبح الركود الاقتصادي الآتي، والذي سيكون الاكبر على الاطلاق منذ ثلاثينات القرن الماضي.
يومها، ساهَم الركود في تحضير المسرح لاندلاع الحرب العالمية الثانية او الحرب الاكثر وحشية ودماراً في التاريخ الحديث، والتي أنتجت معادلة عالمية جديدة وقسّمت العالم بين جبّارين: الولايات المتحدة الاميركية والاتحاد السوفياتي، ليدخل العالم في دوّامة الحرب الباردة التي سحقت كثيراً من الدول الصغرى.
واليوم، ومع الحرب العالمية الثالثة التي فرضها وباء كورونا، تدفع القارة العجوز اوروبا مرة جديدة فاتورة باهظة، لكن الأهم تخلّف واشنطن عن دورها القيادي العالمي خصوصاً تجاه حلفائها الأوروبيين، وظهور الصين كمنافس فعلي على مستوى القيادة.
في الولايات المتحدة الاميركية كثير من الفوضى وسط نزاعات عنيفة محورها فقدان القدرة على قيادة الحرب ضد فيروس «كورونا»، وسط توقيت داخلي صعب عنوانه سَعي ترامب للبقاء في البيت الابيض ويسانده في معركته القاعدة الشعبية للبيض المتعصّبين.
لذلك يطلّ ترامب يومياً عبر وسائل الاعلام في محاولة للايحاء بأنه يقود الحرب ضد الوباء في اخطر أزمة تعصف بالبلاد.
لكنّ التقارير الاميركية تشير الى انّ نحو 500 مليون شخص في العالم يتّجهون الى العيش في الفقر المُدقع، ما يستوجب إجراءات عاجلة من الدول الغنية للدول النامية والفقيرة. ذلك انّ بلداناً تعيش أصلاً تناقضات داخلية مكبوتة تغلق قطاعات كاملة من اقتصادها الضعيف اصلاً، ما يؤدي الى تسريح جماعي لذوي الدخل المنخفض، وهذا سيعني ببساطة واختصار انعدام الاستقرار في هذه البلدان واندلاع اعمال عنف ستؤدي حتماً في حال حصولها الى تغييرات اساسية. والأسوأ بالنسبة الى الدوائر الاميركية تراجع قدرة الجيش الاميركي على التدخل العسكري، ولو لبضعة أشهر حتى الانتهاء من «معضلة» كورونا. فالركيزة الاساسية للقوة الاميركية العسكرية هي حاملات الطائرات والاساطيل الضخمة التي تواكبها، وهو ما بلغ ذروته مع إدخال واشنطن حاملتي طائرات جديدتين تعملان على الطاقة النووية. لكن «كوفيد 19» «نَخر» طاقم 4 حاملات طائرات تعمل في البحار، وهي: روزفلت، ريغان، كارل فينسون، ونيميتز، لتجعلها جميعاً خارج الخدمة.
وبقيت واحدة فقط صالحة للعمل من بين الحاملات الموجودة في الخدمة الآن في البحر، وهي ايزنهاور، والمتمركزة غرب المحيط الهندي.
وبسبب انتشار فيروس كورونا، تمّ تجميد معظم أنشطة الجيش الاميركي باستثناء القوات الجوية. وخلال الايام الماضية سُرِّب تقرير داخلي لوزارة الخارجية الاسرائيلية شارك في وضعه نحو 20 سفيراً وخبيراً. واعتبر التقرير انّ الحرب التي يقودها وباء كورونا ستسرّع من اندفاعة الصين لتَرؤس موقع الدولة العظمى عالمياً، لأنها خرجت قوية وبسرعة من أزمتها، وكانت أول من انتعَش، ما منحها تفوّقاً على الولايات المتحدة الاميركية. أضف الى ذلك المساعدات التي تمنحها الصين للدول المتضررة في مقابل غياب اميركي كامل.
ووفق التقرير، فإنّ التوازن العالمي الجديد سيصعّد حال التوتر في المناطق الحساسة. وأوصى التقرير بالحفاظ على العلاقات الخاصة مع الولايات المتحدة الاميركية واستغلال الفرص الاقتصادية التي تقدمها، ولكن في الوقت نفسه تمتين العلاقة مع الصين.
لكنّ الاخطر في التقرير هو ما يتعلق بالتوقعات، او ربما الرؤيا الاسرائيلية للشرق الاوسط. فالوباء الذي يُقلق العالم سيدفع الى أزمة اقتصادية عالمية حادة، وسيتفرّع منها، وفق التقرير الاسرائيلي، أزمات بالجملة ستهدد استقرار دول الشرق الاوسط. فالطلب على النفط والغاز سيتراجع، وهو ما سيخلق منافسة وربما نزاعات بين الدول المتضررة. وتوقّع التقرير ان يهتزّ استقرار بعض الدول، خصوصاً مصر والاردن، بسبب أوضاعهما الاقتصادية الصعبة. ولحظَ ايضاً توقّع عودة ظهور «داعش» و»القاعدة» بشكل أقوى وأفعل.
وبالتالي، لا بد من التساؤل هنا، عما اذا كانت اسرائيل الداعية دائماً لإشعال حرب في المنطقة، ترى في النتائج الاقتصادية التدميرية لكورونا بديلاً مناسباً لتحقيق مصالحها الاستراتيجية التي طالما سَعت إليها!
ذلك انّ نظرية ارييل شارون بتقسيم الاردن وإقامة دولة فلسطينية على الجزء الشمالي منها ما تزال هدفاً اساسياً للمسؤولين الإسرائيليين لتحقيق يهودية الدولة الاسرائيلية، ما يعني انّ إضعاف مؤسسات المملكة الاردنية وإشعال حرب التناقضات الداخلية وسط ازمة اقتصادية خانقة سيسمح بأخذ الامور في هذا الاتجاه.
أضف الى ذلك الهدف الاسرائيلي بنشر الفوضى على نطاق اوسع في المنطقة، وسط تراجع قوة ايران بسبب وضعها الاقتصادي السيئ. وهذا ما سيمنعها من الاستفادة من الفوضى لا بل سيجعلها تتأثر سلباً.
ووفق الرؤيا الاسرائيليية فإنّ لبنان لن يكون بمنأى، حتى ولو انّ التقرير لم يذكر ذلك صراحة. فاستعادة التيارات المتطرّفة وظيفتها برفع مستوى الحرارة والسخونة لا يجعل لبنان بمعزل عنها، خصوصاً في ظل الاوضاع الاقتصادية الكارثية التي تكاد تخنقه. أضف الى انّ الساحة اللبنانية تختزن عدداً من التحديات الاقليمية، بدءاً من المخيمات الفلسطينية ومروراً بالنازحين السوريين وصولاً الى الخلايا الارهابية النائمة، في وقت تتشَعّب أكثر فأكثر أزمة إدلب. والأخطر تراجع هيبة الدولة اللبنانية وابتعاد الناس عنها بعد فضائح الفساد والمحسوبيات والزبائنية.
قد تكون مرحلة ما بعد كورونا أصعب وأخطر.