تراجع لبنان في العام الجاري 20 مركزاً على مستوى ترتيب السعادة. أصبح حالياً في المرتبة 111 بعد أن كان يحتل في السنة الماضية المرتبة 150. لا يتعلق السبب بمستجدات فايروس كورونا، لأن التعاطي مع الجائحة جيد لبنانياً نسبة إلى المآسي التي يشهدها العالم في هذا السياق. لكن الأزمة الإقتصادية هي الدافع الأساسي لنسف السعادة عند اللبنانيين وإدخالهم في القلق المُستدام، وقد ترميهم في هلاك بعد ان أصبحوا يقفون على حافة الهاوية.
كانت رواتب اللبنانيين في العام الماضي تكفي معظمهم لسدّ حاجاتهم، لكن سعر صرف الليرة اللبنانية أمام الدولار أطاح بالمعيشة جرّاء إنهيار القدرات الشرائية، وضرب توازنات المجتمع.
مثلا"، كان رب العائلة الذي يتقاضى راتباً وسطياً بمعدل مليون ونصف المليون ليرة أي الف دولار بحسب تسعيرة العام الماضي، يُرسل لولده الطالب في اوكرانيا او بيلاروسيا أو روسيا ثلث راتبه 300 دولار شهرياً، ويكتفي بالباقي في لبنان. صار الراتب هو ذاته يساوي 500 دولار أميركي. فكيف يمكن سد حاجات الطالب والعائلة معاً؟ في وقت إرتفعت فيه أسعار السلع الغذائية بسبب انخفاض قيمة العملة الوطنية في بلد يستورد كلّ حاجاته.
واذا كان رب عائلة أخرى يتقاضى نفس المبلغ أيضا، او اقل او أكثر، رغم ان مؤسسات وادارات عدة تحسم نصف او ربع رواتب موظفيها، فهل هو قادر على تلبية متطلبات الحياة في لبنان؟ بمعزل عن الغذاء، فلنفترض أن سيارته تعطّلت، أو إحتاجت إلى مكابح، صارت أسعار قطع السيارات مضاعفة مرتين او ثلاث مرات. لا علاقة لفايروس كورونا بالأمر، بل بسعر صرف الليرة. أصبحت تكلفة قطعة السيارة المقدرّة بمئة دولار تساوي نصف الحد الأدنى للأجور.
مشكلة لبنان الا وجود للنقل المشترك والعام فيه، ولا لطرقات مخصصة للدراجات الهوائية، ولا المشي، وهي ضرورات أساسية في اي بلد. والمشكلة الأخطر ان لبنان استهلاكي يستورد كل حاجاته: الألبان والأجبان والعصائر والبسكويت والمعلّبات هي أبسط الصناعات، لكن الجزء الأكبر منها مستورد من دول إقليمية وعالمية. فكيف بالصناعات الأصعب؟ عدا عن الإنتاج الزراعي المستورد ايضاً.
إعتاد الشعب على إستيراد تلك الحاجات الغذائية، لتُضاف إلى الكماليات والصناعات المتوسطة والثقيلة. لم تكن هناك سياسات هادفة ومنتجة، لا زراعية ولا صناعية، طويلة الأمد. وصل اللبنانيون إلى الأزمة الإقتصادية التي تتظهّر نتائجها يوماً بعد يوم. بالطبع، هي نتيجة سياسات متراكمة منذ ما قبل الحرب اللبنانية، وليست وليدة ما بعد اتفاق الطائف. اماّ السبب فيعود الى ان الشعب اللبناني إعتاد منذ عام 1969 على المال السياسي الذي يأتيه من الخارج. تارة من "الثورة الفلسطينية" وعبرها، وتارة أخرى من دول عربية وغربية، ثم خليجية وإقليمية. كانت القوى توزّع الهبات المالية على جماعاتها، فتؤمّن بذلك مداخيل لفئات واسعة تحرّك عجلة الإقتصاد، بينما يعتمد الباقون على وظائفهم الرسمية او الخاصة، وترتكز قلّة على القطاعات السياحية والتجارية والزراعية والصناعية المتواضعة.
اذا كان اللبنانيون يفتقدون الآن الى المال السياسي الذي كان يأتي من عواصم الخارج المشغولة حالياً بأزماتها، ولا تتوافر عائدات قطاعات سياحية وتجارية متوقفة عن النشاط، في ظل عدم وجود أموال في الخزينة العامة للدولة، وعلى وقع أزمة عالمية تطيح بإقتصادات دول عملاقة وتُدخل العواصم في مرحلة الركود، فهل نتوقّع خيراً بما تحمله الأيام؟.
لا يوجد آمال إيجابية تعيد رفع مستوى السعادة عند اللبنانيين، لا في الحاضر ولا المستقبل، الاّ بوجود كميات غاز في حقول يجري البحث فيها بدءاً من الحقل الرابع. لكن ذلك لا يكفي وحده، في حال لم يقم لبنان بإعادة هيكلة طبيعته الإقتصادية ليتحول من مستهلك مستورد الى منتج مصدّر تدريجياً. فهل يحصل التحوّل من دون إعادة بناء البلد سياسياً والخروج من نظام عفن مهترئ؟ كل شيء مربوط ببعضه في لبنان. آن اوان الدخول في الدولة المدنية لإعادة تأسيس هيكل لبناني يراعي المستجدات الزمنية العصرية. القصة ليست مؤتمراً تأسيسياً بقدر ما هي إيجاد حلول شاملة متكاملة تعيد اللبنانيين إلى الحياة. لم تعد المعالجات الجزئية منقذة للبلد. الوضع تغيّر والترميم السياسي لن يُنقذ اللبنانيين من الهلاك. فلنفتش عن الحل الوطني الشامل الذي لا يتحقق من دون مدنية الدولة اللبنانية.