غالباً ما توصم الأفكار الجريئة الصعبة التحقيق بالأفكار الخيالية. وقد يتناولها الكثيرون بأنّها نوع من الجنون أو الهرطقة المستحيلة، مع أنّ الكثير من الأفكار التي قلبت المفاهيم الكونية قد ولدت في عقول مسكونة بالشجاعة والطموحات النبيلة المستحيلة . لا مجال لتعدادها، بل من الضروري الإشارة، في هذه اللحظة الجرثومية، إلى أهمّيتها، لربّما تحفّزنا إلى قتل خوفنا من بعضنا البعض ونتائجه التدميرية الكاملة تحت مظلّة عنادنا لأن يكون الواحد منّا وحده صاحب سلطات الدين أوالحكم أو كليهما معاً وأيّ كلمة ناقدة أو سلوك معترض يؤذن بالسجن أو بالمقصلة. لماذا؟ لأنّ النقد ما زال يفسّر في ردود فعل السلطات بكونه مفتاح باب الثورة والتغيير.
وقد يتوسّع سلوك أصحاب السلطات الشائنة هذه، فيقلّدهم "الكبار" في الحكومات والبرلمانات والإدارات والقيادات المتنوّعة حتّى الشعبيّة والنقابيّة، وعلى مستوى مجتمعات العالم ليتفشّى السلوك البشري الظالم كما الجراثيم ومثالها الأخير جرثومة الكورونا التي تخرج الطائرات الحربيّة تشقّ الفضاء، وتمخر صفّارات السفن المحيطات وتسهر الناس فوق الشرفات راقصةً ومصفّقة تحيّة للطبيبات والأطباء والممرّضين الذي يخاطرون بحياتهم لتخليص العالم من الوباء، لكن...لكن مهلاً:
يتصارع الكبار ويسابقون على الظفر بالإدّعاء يوماً بأنّ دولته هي الرائدة التي عثرت على اللقاح المناسب للكورونا فيكتسب هويتها، لكنهم يسهون بكونهم هم من أشاعوا ثقافة الموت وقتل الطبيعة. يدّعي معظم البالغين في الأرض أنّهم يحبّون أبناءهم وأحفادهم أكثر من أي شيءٍ في الدنيا، لكنّهم مع ذلك يسرقون مستقبلهم ويدمّرون العالم أمام أعينهم قبل أن ينضج وعيهم.
ليس هناك من هويّة للعلماء. منذ 43 سنة، كتب كريسبين تيكل مدير برنامج التبصر السياسي في معهد جيمس مارتن للعلوم والحضارة في مؤلّفه "تغير المناخ والشؤون العالمية" (نُشر في 1977 و 1986):
"الطبيعة ليست هشّة لكنّنا نحن كذلك والحياة نفسها ستصبح ميتة حتى أنّ التجربة البشرية قد تصبح سريعاً ليس أكثر من حكاية بسيطة. لديّ كابوس عن يوم القيامة. إذا هلكنا جميعاً بعد خمسين عاماً مثلاً، ماذا سيحلّ بالأرض؟ ما الفترة التي تستغرقها المدن لكي تنهار، وللأرض كي تتجدّد، وللحيوانات والنباتات التي اخترناها لأنفسنا، لنجد مكاناً عاديّاً أكثر في الطبيعة، وللمياه والبحار كي تصبح نظيفة ولكيمياء الجو لتعود إلى ما كانت عليه قبل أن نلوّثها؟...". وكتب مثله المئات ولم يمتثل من قيادات كبريات الدول أحد. وكانت نتيجة هذا الكلام هزءاً وسخطاً منه ومن جوقات المحافظين على البيئة!!!
ولو عدنا 22 قرناً لقرأنا لسقراط: "يتراءى أمام عيني بعض الأشياء التي قد تكون خيالات مكلفة في نقد السلطة وهي تلقنني بعض الأمور لإرشاد البشرية"،لعرفنا أن كلامه هذا كان كافياً للحكم عليه بتناول نبتة الشوكران أو الذي لتجرّعه كأس عصيرالبقدونس السام بهدوء ثمناً لنطقه بالحقيقة، متّهماً بإفساد الشباب والإساءة إلى التقاليد الدينية، وخصوصاً أنه كانت لديه أفكاره الخياليّة الخاصة في الحكام الذين يجب ألاّ يكونوا من الذين يتم انتخابهم من الناس بل من الذين يعرفون كيفية التصرّف العادل والنزيه في أثناء الحكم .
وقتلت الكنيسة كوبرنيكوس (1473-1543) لقوله بكرويّة الأرض ودورانها على ذاتها وحول الشمس، منزلاً الأرض من عرشها المقدس كمركز للكون، ما انعكس على مكانة الإنسان وسلطات الحكّام وساواهم مع الكائنات الأخرى الموجودة على كوكب صغير .
وقال غاليلو غاليله (1564-1642) فاصلاً بين علوم الدين المسيحي وعلم الفلك: "يعلمنا الكتاب المقدس كيف نتّجه إلى السماء، لكنه لا يقول لنا كيف هي السماء وما حقيقتها".كان يردع المجتهدين الراسخين في الدين بعدم تفسير نصوص الكتاب المقدس "La Bible" في عهديه القديم والجديد على هواهم ووفقاً لمصالحهم وسلطاتهم الدنيوية على حساب الجهلة من المؤمنين والفقراء.. أجبرته محاكم التفتيش أن يعلن ندمه وضلاله، لكنّه صرخ قائلاً: "ولكنها تدور e pur si move" ..
وعندما نشر المتديّن إسحق نيوتن (1642-1727) نظريته في تحليل النور وقانون الجاذبية ( (La gravitation Universelle سنة 1687، جرّاء تفاحة وقعت فوق رأسه، اتهمته الكنيسة، بأنه مروّج خطير للإلحاد، في حين كانت فكرته تشرح آلية حركة الأجرام السماوية وفقاً لقانون الجاذبية .
وعندما أعلن ألبرت آينشتاين (1879-1955) عن إدراكه الكامل للخالق في أبسط تفاصيل العالم الصغيرة وحركيتها، وليس برمي بؤس البشر على الخالق المتدخل في حياتهم ومصيرهم بالقصاص وصولاً إلى القيامة وكأنّه يعشق تعذيب مخلوقاته. وقد طرح فكرة تداخل الزمان والمكان التي قادت العلماء إلى فكرة الانفجار العظيمBang) Big ) التي أُدرجت كخطوط علمية لجغرافية الكون المرئي.
لماذا هذه الإشارات؟
لأنّني لا الله لا يخيفنا، لكنني أخاف من الإنسان، وأي عالم يجيبك لدى سؤاله عن إيمانه بسؤالٍ آخر:
كيف تسأل وتحكم وتدين ما لم تخلقه وتدركه وتفهمه وتحوقه. لا يمنحك الإيمان به كإنسان الحق بالخوف منه أو بسلطاته .