... والآن، بدأ الكلام الجدّي. فالانهيار وقع، ومرتكزات الدولة اللبنانية «القديمة» تفكَّكت، وبات المطلوب إعادة تركيبها وتأسيس أخرى، لا إدارياً ومالياً واقتصادياً فحسب بل سياسياً أيضاً. والتحدّي هو: مَن سيكون الأقوى في الدولة «الآتية»؟ هل هم أقوياء الدولة السابقة أم إنّ قوى جديدة ستستفيد من الفرصة لتحقيق مكاسب أكبر، أو لتقلب المعادلة إذا استطاعت؟
يقول المطّلعون إنّ انهيار دولة 1943 سيقود إلى معادلة سياسية جديدة، بدلاً من المعادلة المسيحية - السنّية التي كانت الركيزة الأساسية للدولة، حيث تنعَّم هذان القطبان بعناصر القوة الأساسية، سواء على مستوى السلطة أو الموارد المالية والاقتصادية. فقطاعات المال والتجارة بغالبيتها محصورة بمسيحيين وسُنَّة.
مع بروز نجم الإمام السيّد موسى الصدر، وتأسيسه حركة «أمل» في العام 1974، رفعَ الشيعة عنوان التصدّي للحرمان وبدأوا ينادون بشراكة أكثر توازناً على مستوى السلطة والموارد. وكان المأخذ آنذاك أنّ غالبية الزعامات الشيعية التي توالت على رئاسة المجالس النيابية كانت تتحرَّك ضمن الإطار المرسوم لها في «دولة 1943».
عندما انتهت الحرب الأهلية في العام 1990، تكرَّس الخلل بدل أن يُعالج. يومئذٍ، خرج المسيحيون بهزيمة عسكرية وتَشرذُم سياسي وخسائر مالية واقتصادية فادحة. وظهرت زعامة الرئيس رفيق الحريري التي تولّت رعاية الانتقال إلى السلم باتفاقٍ رعاه السعوديون في الطائف.
الطائف قلَّص «امتيازات» المسيحيين في السلطة، وأراح السنَّة أكثر، لكنّ الشيعة لم يقتنعوا بما حقَّق لهم من توازن. فجاء التوازن على يد الراعي السوري: خلَقَ «الترويكا» التي يتوازن فيها «رؤساء ثلاثة» عملياً، كما أتاح احتفاظ الشيعة بالسلاح وقرار الحرب والسلم، من خارج المؤسسات.
بعد خروج السوريين في 2005، كان الهاجس الشيعي عدم التخلّي عن هذا المكسب. والخرق «الاستراتيجي» الذي حقَّقه «حزب الله» آنذاك هو تحالفه مع العماد ميشال عون، قائد الجيش الأكثر رمزية والزعامة المارونية الأقوى. عملياً، هذا التحالف كان «ضربة معلّم» لـ»الحزب». بِه اخترق «معادلة 1943» وزَعزع هيكلها. وإنما، على الورق، أي بالدستور، بقيت دولة 1943 قائمة.
في العام 2008، كان يُراد أن تؤدي الانتفاضة الشيعية في قلب بيروت و7 أيار إلى تحقيق الهدف المُرتجى. وفعلاً، السلطة التي أفرزها اتفاق الدوحة أتاحت حضوراً أقوى للقوى الشيعية في الحكومات والوزارات والمؤسسات. والأبرز هو أنّ وزارة المال باتت حصراً موقعاً شيعياً منذ 2014. في الموازاة، أدّى تدفّق أموال المغتربين الشيعة، خصوصاً من أفريقيا، إلى تشكيل كتلة مالية شيعية ذات وزن في التجارة والمصارف.
إلّا أنّ الشيعة بَقوا ضمن فئة كبار المودعين في المصارف لا فئة كبار المساهمين. وحتى اندلاع الحرب في سوريا، العام 2011، كانت هناك 5 مصارف فقط، يملك الشيعة غالبية أسهمها، ولا يتخطّى حجمها 2 % من السوق. ولاحقاً، أقفل اثنان منها، وهما «اللبناني - الكندي» (2011) و»جمّال تراست» (2019)، نتيجة استهدافهما بالعقوبات الأميركية.
اليوم، مع وقوع الانهيار واهتزاز مرتكزات دولة 1943 وتَحوُّلِ بعضِها «رُكاماً» تقتضي إعادة جمعه وبنائه، يتهافت كل طرف لتحصيل أكبر قدر من المكاسب: المسيحيون والسُنَّة يريدون الحفاظ على الموجود، لكنّ القوى الشيعية تريد الاستفادة من المفصل التاريخي للبناء وفق توازنات جديدة.
عملياً، في إمكان «حزب الله» أن يصل اليوم إلى النتيجة التي يريدها من «المؤتمر التأسيسي»، من دون الحاجة إلى «وجع الرأس» بعقد المؤتمر والغرق في سجالات وتجاذبات قد تحرق جسوره الممدودة مع قوى عديدة في الطوائف الأخرى.
«الحزب» يتمتع اليوم بدعم إيران المباشر ويقيم معها شراكة في القتال على امتداد الجبهات في الشرق الأوسط، ويخوض معها المنازلة ضد الولايات المتحدة. وفي لبنان، هو الأوسع نفوذاً في الحكومة وغالبية المؤسسات والأجهزة، والأقوى بين القوى السياسية كافة. ولذلك، هذه هي فرصته الثمينة للانتقام من المعادلة القديمة وبناء المعادلة التي يتطلّع إليها.
هذه الفكرة هي التي تقود القوى الشيعية في هذه المرحلة: نريد الشراكة في السلطة، ليس فقط في المؤسسات والأجهزة، وإنما أيضاً في المال والاقتصاد، وفي طليعتها القطاع المصرفي. وستكون إعادة هيكلة هذا القطاع فرصة مثالية لذلك.
ما يَطفو اليوم على سطح الأزمة المالية والاقتصادية هو الرأس الظاهر من جبل جليد هائل. وسيكون عقيماً العمل للمعالجة على المستوى السطحي. ولهذا السبب، يصعب تفسير العديد من مظاهر الأزمة وخلفياتها ومواقف القوى المعنية، داخلياً وخارجياً، كما يصعب التكهُّن بما يمكن أن تؤول إليه.