لعل أهم ما قدّمته الجلسة التشريعية هو أنها كشفت الفضيحة التي لطالما حاول أركان التركيبة السياسية إخفاءها. فهؤلاء في النهاية متضامنون ومتّفقون على الهدف، وهو استمرار سيطرتهم على البلد وموارده، ولو تصارعوا على المصالح حيناً أو آخر.
في اعتقاد المتابعين أنّ الطريقة التي ظهر فيها التنصّل من المشاريع المطروحة، ولا سيما رفع السرية المصرفية عن ذوي السلطة وإمكان محاسبتهم، أثبتت للشارع الغاضب أن لا مجال لتغيير هذه التركيبة بالطرق التي تمّت تجربتها، ولا مجال لتغيير سلوكها أيضاً. فأركان التركيبة مخادعون ويستخدمون كل الأسلحة ليدافعوا عن بقائهم.
إذاً، على الأرجح، كان يفترض أن تكون الجلسة حافزاً مباشراً لتحريك الانتفاضة الشعبية مجدداً. وقد تحرّك بعض الشارع تزامناً، بهدوء وبطء، لكنّ الانفجار الكبير لم يقع.
يقول البعض إنّ المخاوف الوبائية تبقى السبب الأساسي لهذا التباطؤ. فهناك مسؤولية وطنية يتحسّسها المنتفضون، ولا تجوز التضحية بحياة الناس من أجل لقمة العيش أو الإصلاح.
وفي هذا الكلام مقدار من الصواب. ولكن أيضاً يجدر عدم وضع اللوم على «كورونا» لشَلّ الحراك الشعبي. فالانتفاضة توقفت قبل الوباء، وتحديداً منذ أن جاء الدكتور حسان دياب إلى السراي.
إعتبرت شرائح أساسية في الحراك أنّ من الظلم عدم منح الرجل فرصة لإثبات وعوده بالتزام مطالب الانتفاضة، وزاد في ذلك أنّ القوى الدولية الفاعلة منحته أيضاً فرصة قدّرها البعض بـ100 يوم.
ولكن، على قادة الحراك الشعبي أن يعترفوا أيضاً بأنهم كانوا قد وصلوا إلى مرحلة التعب من الشارع آنذاك. بل إنّ تحقيق الهدف الأول الكبير، إسقاط حكومة 2016، وضع الجميع أمام تحدي الاتفاق على المرحلة التالية. وهنا ظهر التباين واضحاً بين التيارات والمجموعات والكوادر.
واليوم، مع بداية التحرك الشعبي المستجد، أو ما يمكن تسميته «الانتفاضة 2»، تظهر ملامح الخريطة التي ستتشكّل في الشارع. فهناك على الأقل 4 تشكيلات ستملأ المكان:
1 - الجائعون. وهؤلاء لم يعد لديهم شيء يخسرونه. فقد تبخرت أعمالهم والقروش القليلة التي كانت في أيديهم أو في المصارف. ووصلوا إلى الكفر، وسيكون مطلبهم الأساسي هو: «بَدنا ناكل جوعانين»!
2 - تيارات المجتمع المدني التي كانت السبّاقة إلى إطلاق انتفاضة 17 تشرين الأول، وهي تضم هيئات وجمعيات وأحزاباً خارج السلطة (الكتائب، الكتلة الوطنية...) وترفع شعارات الإصلاح واستعادة الأموال المنهوبة وتغيير التركيبة السياسية وبناء دولة القانون.
3 - التيارات اليسارية، ذات الاتجاهات الماركسية خصوصاً. والإصلاح في نظرها لا يكون بتغيير التركيبة لأنّ النظام سيعيد إنتاجها. فالمطلوب هو تغيير النظام السياسي - المالي - الاقتصادي، المَبني على الفساد والزبائنية لدى زعماء الطوائف. وهذه التيارات درجت على رفع عنوان: «يسقط حكم المصرف»!
4 - جماهير الأحزاب نفسها. أحزاب التركيبة إيّاها. وهي سبق ان نزلت إلى الشارع ضمن برامج وأجندات مختلفة. مثلاً: جماهير «حزب الله» و»أمل» و»التيار الوطني الحر» تقوم بـ»خَردقة» الجماهير الأخرى، فيما قوى 14 آذار التي كانت جزءاً من حكومة الحريري تُحرِّك جماهيرها إجمالاً لركوب الموجة أو لاستثمارها سياسياً.
ولذلك، سيكون التحدي كبيراً عند انطلاق الانتفاضة الجديدة: مَن سيبادر، وتحت أي عناوين، وما هي السقوف التي يجب اعتمادها؟ وسيقود الأمر إلى إرباك شديد قد يشلّ الحراك.
إذا حلّ هذا الإرباك، وهو قائم نسبياً، فسيكون هدية ثمينة لأركان تركيبة المال والسلطة. وهو سيوفّر عليهم عناء إنزال جماعاتهم إلى الشارع لتحقيق هذه الغاية. أو على الأقل سيكون ذلك ملائماً جداً للقوى التي ما زالت تشارك في السلطة. وعلى العكس، سيكون من مصلحة الخصوم الذين خرجوا من السلطة أن يستخدموا ورقة الشارع لإعادة خلط الاوراق.
ولكن، في معزل عن شريحة الأحزاب «المتآمرة» أو المستثمرة للحراك، إنّ الشرائح الثلاث الأولى ليست في خير. فبينها تباين أو تناقض أو حتى تَصارُع في التكتيك والاستراتيجيا:
هل عليها أن تعتمد العنف، أي الثورة، حيث أخفقت الانتفاضة السلمية؟ هل تهادن القوى السياسية التقليدية وسلطات السياسة والمال أم تواجهها بقوة؟ وهل تنصت إلى النصائح الدولية، وأيّ منها؟
إذا غرقت تيارات الانتفاضة في هذا الجدل، فستكون قد كتبت نهايتها. وهي في 17 تشرين تحرّكت بلا برنامج موحّد، ومع ذلك استطاعت تحقيق إنجازات هائلة في أسابيع. وستكون قادرة على تحقيق إنجازات أخرى اليوم.
نقطة القوة في تركيبة السلطة أنّ مكوّناتها متحالفة في العمق، ولو كانت مختلفة في الشكل. ونقطة الضعف في تركيبة الانتفاضة أنّ مكوناتها متحالفة في الشكل، لكنها مختلفة في العمق.
ولذلك، سيكون على الانتفاضة او الثورة أن تقاتل تركيبة السلطة والمال بسلاحها: تتحالف في العمق ولو اختلفت في الشكل... وإلّا فإنّ الجياع سيكونون الشريحة الأقوى والأصدق في انطلاق الانتفاضة 2. وسيرضخ الجميع لعنوان الجوع، وسيكون الأشد قساوة.