سألت طالباتي وطلاّبي في الجامعة نهاية العام الماضي 2019، عن رغبتهم في الهجرة بهدف إيجاد عمل، رفع معظمهم أياديهم بسرعة. اعتبرت آنذاك بأنّ لهفة أجيالنا الفتيّة نحو الخارج لإيجاد عمل، هو السقوط الوطني. إنّ أربعة من خمسة شباب في لبنان كانوا يبحثون عن حلمهم الأقصى أعني عملهم الأوّل. ثمّ سألت: لماذا لا تنزلون إلى الشوارع متظاهرين ورافضين، قالوا بأنّ الوضع ملتهب وأدنى شرارة يمكنها أن تشعل النار في وطنٍ محشو بالبارود الطائفي والمذهبي.
أدركت يومها بأنّ لبنان واللبنانيين جاهزون للتفجّر المخنوق، ربّما بسبب التجارب والمرارات التي دمغتهم عبر الحروب الأهلية ومسلسل الإغتيالات والإنقسامات المزمنة والبطالة والعوز وتنامي الفقر المتفشّي. كان يكفي الوصول إلى 17 تشرين الأوّل حتّى بلغ الحراك المفاجيء، قمم المطالبات بالتغيير والثورة والرفض القاطع للأوضاع العامّة. صحيح أنّ الحراك برد مؤخّراً بسبب تفشّي جرثومة الكورونا، لكنّ الصحيح أيضاً، أنّ إجتياحات المتظاهرين/ات للساحات والشوارع بعرباتهم خلال اليومين الماضيين(21 و 22 نيسان)، حيث كان البرلمانيون يجتمون في مبنى الأونسكو بدلاً من البرلمان، جاءت تحمل بأكثر من دليل بأنّنا ما زلنا في بداية الطريق نحو التغيير والأزمات والثورات المتنوّعة من داخل لا من خارج، وذلك فور انزياح الكورونا والتعبئة العامة.
قد يكون الأصحّ، الذهاب إلى ما هو أبعد وأعمق من ذلك بكثير. أفكّر بالسنوات العشر الأخيرة الحافلة بالألام والعذابات والمخاطر الذي عاشها هذا الجيل اللبناني والعربي إذ بدأ ب"الربيع العربي" الذي بلغ ذروته الأولى متنقلاً بالفظائع من بلدٍ لآخر ليبلغ ذروته الثانية مع ظهور داعش وأخواتها من الإرهابيين، ويرمينا هذا العقد جميعاً قبل أن ينصرم، في الذروة الثالثة أعني صدمة كورونا19 التي أقلقت العالم.
لكن مهلاً...لو حفرنا قليلاً، لوجدنا أنّ شباب/بات العالم المكشوف، كان مصاباً ب"جرثومة" الإعلام والتواصل والإطلاع الدقيق على مجريات ما يحصل في الدنيا. لم يعد الأمر محصوراً بأهل الإعلام الذين يلحقون اليوم ما ينشره الناس والمشاهير في لوحة التواصل البشري. نكتشف أنّ هذه السنوات العشر الأخيرة، كانت متفجّرة في معظم عواصم العالم ومدنه. ملايين المتظاهرين تتقدّمهم النساء، بدوا رافضين بقوّةٍ لحكوماتهم كما للمنظّمات الدوليّة. نزلوا إلى الساحات العامّة وأربكوا الحياة، واكتظّت السجون بالآلاف من الموقوفين ، وجابت ملايين الشعارات والإعتراضات واللوبيات والتجمّعات والهاشاتاغات الشاشات ووسائل الإعلام وجذبت العيون والآذان والإنتباهات في الدنيا. لقد تمكّن المتظاهرون من إرباك الأنظمة وقلب الحكومات ممّا دفع العديد من المسؤولين الكبار إلى تقديم الإستقالات. بكلمتين، لقد تمكّن الطلاّب والشباب المتظاهرون من تغيير وجه الجيوبوليتيكيا بما قاد إلى اختفاء العديد من الأحزاب والزعامات التقليدية ،وولادة الجديدة منها التي أنشأتها التجمّعات المدنيّة والقوى التي بدت وكأنّها متشابهة في كلّ شيء بعدما أصابتها "جرثومة" عارمة منتشرة عنوانها الرفض والتغيير.
وبالإضافة إلى عنصر النساء الوجه الجليّ الساطع في التظاهرات الكونيّة، كان يمكن رصد نضال القادة التقدميين أو بقايا اليساريين داعمين للفقراء والشباب والطلاّب والعمّال والأقليات المسحوقة والنقابيين والمهاجرين والنازحين واللاجئين في زوايا الأرض عبر شعارات إدانة السلوك العنصري والتمييز وطلب المساواة كحق دولي وإنساني. لو سألتني عن اليمين في هذا المناخ العام، لأمكن القول، أنّه كان يتحرّك وتتصاعد نبرته ضدّ المهاجرين أوهدر الثروات الوطنيّة لدى توزيعها والصراخ ضدّ الفساد الحاكم. فمن أفريقيا إلى أميركا الجنوبيّة، كان سهلاً تقصّي تلك اليقظة اليمينيّة الفوضوية أحياناً والقليلة الثقل والفعالية عددياً واستراتيجيّاً، بينما بدا هذا اليمين، بالمقابل، يبعث الفاشيّة في أوروبا وكأنّها حنين نرجسي سياسي ظهرت كاسحاً ومغرياً لكنه مكبوت، وظهر النازيّون الجدد حتّى في أميركا وأرتكبوا المجازر في العلن.
وللمفارقة، افتتح العقد الثاني من الألفية الثالثة، بأضخم المظاهرات في العالم لينتهى بانتخاب ترامب الرئيس صاحب الصورة الأكثر إنفعالية وجدليّة في تاريخ أميركا والعالم. لم يكن صعباً إلصاق أميركا بكونها منبع التشنّجات الدوليّة بعدما عرفت في ال2008 أسوأ أزمة ماليّة ظهرت في القطاع العقاري لتنتشر في العالم كلّه وكأنّها نوع من الفيروس. كانت الدولة هي الوحيدة القادرة على تخليص السوق من الأزمة. وإذا كانت المدخّرات الشعبيّة قد ساهمت في إنقاذ الرساميل الخاصّة، فإنّ الشعوب بالمقابل، قد تألّمت كثيراً إذ هبطت الرواتب، وارتفعت الضرائب والأسعار، وتدنّت المصاريف بالطبع وتراكمت كتل الفقراء والمحتاجين ليس في أميركا وحسب، بل في العالم أجمع، وبأشكال ونتائج وتداعيات مختلفة.
كلّ هذا المناخ، أدّى بالنتيجة إلى تظاهرات عنيفة وحركات إجتماعية ومخاطر عمّت العالم، نبّهت إليها كريستيان لاغارد قبل تسلّمها رئاسة صندوق النقد الدولي.
كانت ثقل انهيار اليونان يخيّم على الجميع، وكان الشباب المتظاهرون يهتفون: لسنا بضائع يتبادلها السياسيون والمصرفيون. أليس ما ورد ينطبق على لبنان والعديد من البلدان؟