لا يعتقد احد ان وباء كورونا قد انتهى وبات وراءنا، ولكن، وفق ما اظهرته الارقام ووفق وتيرة العمل الناشطة في هذا السياق، يمكن تلمّس بعض الايجابيات في المواجهة اللبنانية لهذا الوباء، باعتراف محلي ودولي، بحيث اصبح من الممكن التوقّف للحظة قبل التحضر للمرحلة المقبلة، مع التشديد على وجوب عدم الاستخفاف والاستهزاء بالتدابير الوقائيّة المتخذة، والا نكون كمّن ناضل من اجل لا شيء.
ولكن، ظهر بشكل واضح ان تراجع القلق بسبب كورونا، ترافق مع تصاعد الحدّة في فتح المعارك، وكان التركيز بشكل اساسي على الموضوع المالي والنقدي، وما الارتفاع المجنون لسعر صرف الدولار الاميركي سوى دليل كاف على سير المعركة. اذاً، وبعد استراحة قسرية، عادت السياسة الى الميدان، وبقوة، وبعد اطلاق النار على رئيس الجمهورية العماد ميشال عون ورئيس الحكومة حسان دياب، اتّخذ قرار الردّ واتى من جهة حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، وما كان يقال في السر تمّ اطلاقه في العلن، لجهة وجود شكوك حول ادارته للملف النقدي ولسعر الدولار، الى ان دعاه دياب الى مصارحة اللبنانيين بما يملك من معلومات. ولم يتأخر الوقت حتى بات مركز سلامة على كل شفة ولسان بين من اكد طرح استقالته في مجلس الوزراء على التصويت، وبين من نفى هذا الامر. وفي الحالتين، بدا وكأن سلامة اصبح ضمن نادي المستهدفين، ونجح في احداث شرخ في الآراء حوله بين مؤيّد ومعارض لسياسته الماليّة، الى ان تدخل البطريرك الماروني على غرار ما كان يحصل مع المرجعيّات الروحيّة الاسلاميّة والدرزيّة، لتأخذ المسألة منحى آخر ابتعد بشكل كبير عن الحقائق ومكافحة الفساد، ووصل الى حدّ تحوّله الى مشكلة طائفيّة-سيّاسية-دوليّة. كل هذه المعطيات والتطورات، كفيلة بأن تجعل من المنطقي القولان منصب سلامة ليس في خطر، وانّ ما حصل له اعتبارات اخرى -علماً ان الكيمياء مفقودة حتماً بين سلامة من جهة وعون ودياب من جهة ثانية- ومن ابرزها الانتقال من سياسة الدفاع الى الهجوم الشرس على مطلقي النار على العهد والحكومة، وافهامهم انه بالامكان محاسبتهم بأمور ماليّة شخصيّة لن تزعج الحكومة البعيدة بتركيبتها عن الاستفادات الماليّة التي حصلت، على عكس الكثيرين من الشخصيّات الاخرى التي توالت على تولّي المناصب الرسميّة لفترات من الزمن.
الرسالة الاخرى التي تمّ العمل على ارسالها، مفادها انّ الاستمرار باستهداف العهد والحكومة بهذا الشكل، سيغيّر قواعد اللعبة وسيصبح من المسموح استهداف كل المواقع، حتى تلك الّتي كانت من "المحرّمات" في السّابق، وبالتّالي قد لا تقف الامور عند حدّ مصرف لبنان، بل ستتخطّاه الى مناصب اخرى ستزعج المعارضين الذين يعتبرونها بمثابة "محميّات" لهم.
موضوع آخر يجب لفت النظر اليه، ويتعلّق بالزاميّة الكفّ عن اطلاق النار على العهد والحكومة من باب الامور النقديّة والماليّة، لانّها الاكثر حساسيّة بالنسبة الى الناس، ولن يكون من الممكن السكوت عنها، وستكون محاربتها بالساحة نفسها انما من باب ورؤية اخرى اكثر ازعاجاً بالنسبة الى من يقف وراءها.
ووفق هذه الرؤية المختصرة للامور، يبدو ان موقع سلامة ليس في خطر، وان الهدف انما كان اعتماده كصندوق بريد لايصال الرسائل والتحذيرات بعدم خرق "قوانين اللعب السياسي" وتحويلها الى الساحة النقديّة والماليّة، وبعدم الرهان على عجز العهد والحكومة عن الردّ لانشغالهما بوباء كورونا وبالمشاكل الاقتصاديّة الكبيرة التي تلقي بثقلها عليهما، والاهم افهام دياب لمعارضيه انّ عدم وجوده على رأس تيّار اوحزب او تمتّعه بمناصرين ومؤيّدين في الشارع وبالتفاف طائفته حوله، لا يعني انه "يتيم"، بل هو قادر اذا ما اراد، ان يكون شوكة مؤلمة في خاصرة معارضيه، وان سقوطه في الشارع ليس بالسهولة التي يعتقدها البعض.