يكثر الحديث في الأيام الماضية عن الهيركات وشرعيته، ويتناوب أطراف السلطة -بشقّيها الحاكم والمعارض- الهجوم على هذا الإقتراح تحت ذريعة ما يسمّى "قدسية" أموال المودعين، فتشعر لوهلة أن هؤلاء غُيِّبَت عن أذهانهم أحداث ثلاثين سنة خلت كانوا فيها مسؤولين عن هتك هذه القدسية التي يتلطّون اليوم خلف راياتها. فهم لم يعيروا انتباها لقداسة الإيداعات عندما قضت سياساتهم بتعيين رياض سلامة حاكما لمصرف لبنان، ولم يراعوا حق ملكية الناس لأموالها عندما أجمعوا على التجديد له مرارا كوصيّ غير أمين على هذه الإيداعات رغم التحذيرات المتكررة من سياساته الفاشلة وآثارها التراكمية، كما لم نسمع تصريحاتهم "الثورية" عندما كانت المحاصصة بينهم تنهش التعيينات المصرفية منصّبة هذا الحاكم ديكتاتورا ماليا دونما رقابة أو مساءلة. أمام هذا الواقع، لا يسعك إلا أن تستغرب اليقظة المفاجئة لضمير أمراء الطوائف وجنرالات الحرب الأهلية على "حقوق المودعين"، لتدرك بعد مطالعة بسيطة أن هدف بعض هذه المسرحيات دسّ سم فسادهم في عسل الإصلاح المحتمل.
قد تستطيع أن تفهم الإعتراضات على اقتراح الهيركات إذا ما تأكد أنه سيطال أصل المبالغ المودَعة في المصارف، فالتعرّض ل "تعب الناس" يحتاج إلى دراسة عميقة تتيح أمام هذا الإقتراح مشروعية التنفيذ، مع أن أصل المبالغ المودَعة (إذا ما تكلمنا عن طبقة ال ١٠٪ الأعلى) قد يناقش البعض في أنها ما كانت لتحافظ على قيمتها لو كنا في دولة حقيقية تفرض قوانين ضريبية عادلة على الثروة والميراث والعقارات وغيرها، لا بل لو كنا بالحد الأدنى في دولة تطبق النصوص القانونية الموجودة فعليا (فاستثناء ثروة آل الحريري من ضريبة الإرث مثلا حرم الخزينة من مدخول وازن). ورغم ذلك، قد يكون الإعتراض مفهوما؛ ولكن من غير المفهوم أن يسري الإعتراض على الهيركات الذي يطال الفوائد على الإيداعات.
هذه الفوائد والتي تمثّل صلب السياسة المصرفية التي أوصلتنا إلى هذه الأزمة، والتي استفاد منها الجميع عندما كان القطاع المصرفي "مزدهرا"، تعتبر مرتفعة جدا وغير منطقية أبدا مقارنة بالفوائد التي قد يعرضها أي مصرف خارج لبنان (وقد وصلت الفوائد في بعض المصارف اللبنانية إلى ١٤٪ وهو ضعف ما يمكن أن يقدمه مصرف في أي بلد آخر)، والهدف من هذا الارتفاع كان - كما أصبح الجميع يعلم الآن - هو استقطاب الدولار إلى الداخل بهدف الحفاظ على الهيكل المصرفيّ الهش. وبالتالي فإن المصارف ومن شاركها حصاد الأرباح أيام "الإزدهار"، وكان شريكا في التغطية عليها والترويج لها كوصفات علاجية ناجعة، ومستغلّا لسياساتها الخاطئة بهدف مضاعفة ثرواته على مرّ السنين، لابأس بأن يكون شريكا جزئيا في الخسارة اليوم إذ وقع الإنهيار، ولاضير في أن تسترد الدولة في إطار "تصحيح المسار" الأموال التي جناها كبار المودعين من دون أن تتعرض لأصل ودائعهم، وبما يتناسب مع فوائد كان المودع ليحصّلها في ظل نظام مصرفي يعتمد سياسة فوائد منطقية.
وقد تستطيع أن تفهم - بصعوبة - اعتراض الجميع على الهيركات عندما كان يروّج لأنه سيطال ١٠٪ من المودعين، ما يعني أن يطال القرار كل إيداعات الـ١٠٠،٠٠٠$ وأكثر، ولكن الإصرار على هذا الموقف السلبي بعد تطمينات بأن القرار لن يطال إلا نسبة ٢٪ من كبار المودعين ذوي حسابات النصف مليون دولار وأكثر، يضع صاحب الموقف في موضع شبهة لا يجب عليه أن يلومنّ فيه لومة أحد.
فهذا الإعتراض يجعل صاحبه أمام احتمالين: الأول هو أن له ما له من مصالح مع هذه الطبقة المتموّلة مع ما يرافق هذا الإحتمال من شبهات، والثاني هو أن الجوقة المصرفية بأزلامها من السياسيين والمستشارين والأبواق نجحت بأن تستدرجه معها إلى خانة الداعمين لـ٢٪ من كبار المودعين من دون أن يكون واعيا لأثر هذا التوجه، ومقتنعا بصدقٍ بصوابية هذا الإعتراض. والمشكلة في الموقف السلبي من الهيركات هي أنه يضع المعترض بشكل غير مباشر في مواجهة ٩٨٪ من المودعين الذين يتشكّل غالبهم من الفقراء وصغار المودعين والموظفين، إذ أن عدم لجوء الدولة إلى الهيركات لتعويض خسائرها تحت حجة اعتراضات المعترضين على المساس بطبقة ال ٢٪ من الأغنياء، قد يدفعها إلى حلول أخرى تضطرها لامحالة إلى التعرّض لجيوب المواطنين على شكل ضرائب لا تفرق بين غني وفقير.
هذا وإنّ الكلام المنمّق عن الإصرار على قوانين استعادة الأموال المنهوبة - التي يطالب بها الناهبون أنفسهم-عوضا عن اقتراحات الهيركات، لا يعدّ إلّا هروبا إلى الأمام يستسيغه بعض مروّجيه لإطالة أمد سطوتهم على المال العام وعلى ودائع الناس. أما البعض الآخر الصادق في هذا المطلب والمعارض في الوقت نفسه لتشريع الهيركات، فتطرح عليه الأسئلة التالية: ألم تعتمد الفوائد المرتفعة المقدّمة لكبار المودعين على الهندسات المالية الفاشلة لحاكم مصرف لبنان؟ ثمّ ألا يعتبر مال المصرف المركزي الذي استخدم في هذه الهندسات مالا عاما؟ وألم تستخدم ودائع ال ٩٨٪ من صغار المودعين المتبخّرة الآن في تلبية الفوائد المرتفعة لطبقة ال ٢٪؟ وبالتالي ألا تعتبر الأموال التي كسبها هؤلاء وراكمتها حساباتهم المصرفية بشكل غير مباشر مالا عاما منهوبا؟ يفترض أن تصوّب الإجابة على هذه الأسئلة طريق التائهين في زحمة الأبواق المصرفية التي يتعاظم خوفها من مسار إصلاحي جادّ يلوح في الأفق، كما يفترض أن تعرّي المتلطّين خلف شعارات وهمية يدافعون بها عن سرقتهم للمال العام وهدرهم لودائع الناس التي لم تعد سوى أرقاما على ورق.
لكن الحديث عن الهيركات كخطوة يبقى محدود الأثر ما لم يتم تناوله في إطار خطة مالية وإقتصادية إصلاحية شاملة لا تكتفي بتعويض خسائر الدولة من الهيركات ومن رساميل المصارف فقط، بل تتعرض بشكل مباشر للأرباح المتراكمة لأصحابها على مرّ السنين، وتصرّ على جردة شفافة لموجودات مصرف لبنان ليخضع بعدها حاكمه للمساءلة والمحاسبة، وتعمل بعد ذلك على إعادة هيكلة واقعية للقطاع المصرفي بما يتناسب مع حجم لبنان وقدراته.