بات القضاء اليوم امام المثل القائل "عند الامتحان، يكرّم المرء او يُهان"، وها هو القضاء اللبناني امام الامتحان بعد ان اتفقت كل القوى الرسمية والاحزاب والتيارات السياسية على اعتباره المرجع الكفيل بحسم الامور، فإما العودة الى ما كنا عليه من قبل او البدء بصفحة جديدة. في الواقع، ليس من السهل التنبوء بالنتيجة، فلطالما كان القضاء مدار اتهام على ألسنة الجميع، حتى على ألسنة بعض القضاة، وكان دائماً المتهم الاول بفشل كل محاولات الاصلاح ومكافحة الفساد ومراقبة الهدر والسرقات وتسلّل السياسة اليه بشكل يؤثر على قراراته. الواقع الحالي يعيد الامور الى ملعب القضاء مجدداً، فالدولة اعتبرت انه لا بد من اجراء التغييرات اللازمة كي تنقلب الآية ويصبح الفاسدون مقيّدون والصالحون احراراً، ببينما العكس هو الذي كان سائداً. وفي السياق نفسه، انضمّت اصوات مؤيدين للعهد والحكومة ومعارضين لهما الى اصوات اللاجئين الى القضاء لبتّ المواضيع والمشاكل، لتتّجه الانظار اليه، وهو الذي يحمل حالياً القنبلة الموقوتة وبامكانه اما تعطيلها او تفجيرها.
بهذه البساطة، ردّت الحكومة على استهدافها بما تعتبره عبثاً بالاقتصاد والمال وبالشارع وبالسياسة، فوضعت امام القضاء سلسلة مواضيع وصلاحيات تخوّله لعب دوره الفعلي الذي طال انتظاره، وما الكلام الذي صدر عن رئيسي الجمهورية العماد ميشال عون ومجلس الوزراء حسان دياب، سوى دليل على حثّ القضاء كي يقوم بما عليه دون الالتفات الى احد. وعلى الخط المقابل، كان حديث المعارضة يتّجه في المنحى نفسه وطلبت من القضاء ان يحسم الامور بنزاهة وتجرّد ويعطي لكل ذي حقّ حقّه. ولكن، هل يمكن فعلاً للقضاء ان يعلن التمرد على الفقاعة السياسية والطائفية والمذهبية التي تغلّف لبنان؟ المشككون بقدرة القضاء على اخذ الامور بيده يذكّرون انه منذ ايام قليلة، كان مجلس القضاء الاعلى يشكو من عدم توقيع وزيرة العدل على التشكيلات القضائية التي رفعها، وحصل لغط حول الصلاحيّات وما اذا كان يحق لوزيرة الدفاع ان توقّع ايضاً ام لا... وسأل هؤلاء: هل سيكون هذا الامر سبباً في ايجاد مخرج مشرّف للقضاة كي يعتمدوا سياسة "النأي بالنفس" عن الملفّات المطروحة امامهم؟ ام سنكون امام سيناريو آخر يقترح اعتماد سياسة "النفس الطويل" في التأجيل والتجميد كما كان يحصل في الكثير من الملفات الاساسية والمهمة؟ ويتابع المشككون انه لا أمل في قيام الدولة واعتماد نهج جديد طالما ان السياسة اقوى من القضاء وهي التي تديره في كثير من الاحيان. وتلتقي مصادر مؤيّدة للحكومة مع النظرة التشكيكية في السماح للقضاء بالقيام بدوره، معتبرة ان المعارضين يلعبون على هذه الورقة تحديداً لاظهار ان الحكومة تمنع القضاء من ممارسة مهامه، فيما الحقيقة ان المعارضين انفسهم تنعّموا على مدى سنوات وعقود من الزمن بالقيام بهذا الامر وها هم اليوم يلبسون غيرهم الثوب نفسه. وهكذا، بين مطرقة الحكومة وسندان المعارضة، يجد القضاء نفسه في قفص الاتهام وعليه ان يتحمّل مسؤولية ما ستؤول اليه الاوضاع في لبنان، في وقت يبدو انّ الجميع بدأ يجهّز حججه وذرائعه لتبرير عدم نجاح القضاء في لبنان في القيام بالدور المصيري المطلوب منه، ولا شك ان تقاذف الاتهامات السياسية سيصل الى اوجه في الايام المقبلة مع تصاعد المواجهة السياسية الحامية، والمترافقة مع مواجهة ماليّة واقتصاديّة ومعيشيّة تضع اللبنانيين امام مصير مجهول، لتحقيق مأرب من هنا ومكسب من هناك، والابقاء على نفوذ سياسي قد لا يجد صاحبه اي منفعة له اذا ما تم بالفعل ضرب البلد وغياب هويته الاساسية في خضم الازمات التي عصفت بالعالم اجمع وفي مقدمها ازمة وباء كورونا.