حتى في ذروة الحرب السورية، لم تكن إيران محشورة إلى هذا الحدّ في الدفاع عن نفسها في «الهلال الشيعي». بين بغداد وبيروت، مروراً بدمشق، أشهرٌ فاصلة لها. إلى حدٍّ ما، إنها مسألة حياة أو موت لـ»الإمبراطورية»!
في نظر المتابعين، ليس مستغرباً على الإطلاق أن يقاتل «حزب الله» للدفاع عن أعلى مستويات النفوذ في حكومة الرئيس حسّان دياب والمؤسسات والأجهزة الرسمية.
فالمسألة لا تتعلَّق فقط بحضوره، كمكوِّن سياسي وطائفي ومذهبي داخل التركيبة اللبنانية، بل أيضاً بما يمثِّله على الرقعة اللبنانية والشرق أوسطية عموماً، باعتباره الذراع الأقوى والأكثر تماسكاً بين حلفاء إيران.
من دون «الحزب» كانت طهران ستفتقد العديد من انتصاراتها وإنجازاتها، وكان الكثير من الوقائع سيتغيَّر في حروب سوريا خصوصاً، ولكن أيضاً في العراق واليمن. واليوم، تبدو المهمَّة أخطر، لأسباب عدّة تتعلّق بمعطيات جديدة تتحرَّك داخل الكيانات الثلاث، العراق وسوريا ولبنان، التي تشهد كلّها استنفاراً إيرانياً قاسياً لمنع تفلُّتها من القبضة.
مشكلة الإيرانيين تبدأ بالعراق، الخاصرة التي لطالما رغبوا في تأمينها منذ أن تخلَّصوا من الرئيس صدام حسين. وعلى رغم أنّ الورقة المضمونة هي الديموغرافيا حيث أكثر من 60 % هم من الشيعة، وعلى رغم أنّ هؤلاء باتوا أقدَر في السلطة، فإنّ إيران لم تتمكن من استيعاب الشارع بما يجعل العراق كوكباً يدور في الفلك الإيراني.
وقد جاءت الانتفاضات الشعبية، في نهاية العام الفائت، لتزيد من هواجس إيران. وحتى اليوم، لا أفق لأي محاولة تستهدف إبعاد الغطاء الأميركي عن مؤسسات الحكم وأدواتها العسكرية والأمنية. ورمزية اغتيال اللواء قاسم سليماني ورفيقه الرقم واحد العراقي، «أبو مهدي المهندس»، على أرض بغداد، تثبت هذه الصورة.
ولذلك، يستفيد الإيرانيون من العراقيل التي تعترض الرئيس المكلَّف تشكيل الحكومة مصطفى الكاظمي. فالرجل لا يريحهم، وهو أعلن بوضوح رفضه أي ضغط يُناقض مصالح الدولة. وثمة مَن يرى أنّ طهران تراهن على فشل التأليف ضمن المهلة التي تنتهي في 9 أيار، ما يُبقي عادل عبد المهدي في منصبه.
وفي الموازاة، تعمل طهران للإمساك بكامل الحدود العراقية معها ومع سوريا والأردن، من خلال الحشد الشعبي بدلاً من الجيش العراقي كمؤسسة، تحت عنوان «تنظيف هذه المناطق من خلايا «داعش». وتريد بذلك السيطرة على المعابر، أي الاحتفاظ بالقدرة على إيصال الإمدادات إلى الحلفاء في الساحتين السورية واللبنانية.
ولكن، في هذه اللحظة، تواجه إيران مآزق جدّية في سوريا، وقد تكون الأكثر تأثيراً. فحتى اليوم تواصل إسرائيل، بتغطية دولية واضحة، توجيه ضرباتها إلى أيّ هدف يعود إلى إيران و»حزب الله» في سوريا، وتصرُّ على أنّ هذه المهمَّة مستمرة لمنع وصول طهران إلى الحدود الإسرائيلية. وواضح أنّ روسيا تستفيد من تقليص النفوذ الإيراني لتمسك أكثر بقرار دمشق.
ولكن، بدأت تظهر ملامح تباعد بين موسكو ونظام الرئيس بشّار الأسد. ويوحي الروس بأنهم مصرّون على القول في سوريا «الأمر لي». وهذا يظهر من خلال التوتر الذي مَيَّز موقفهم الرافض لأيّ مواجهة مع تركيا، في ما يتعلق بمعركة إدلب، انطلاقاً من اقتناعهم بأنّ هذا الأمر متروك لتقدير السياسات العليا في موسكو، وليس دمشق.
ومن هنا، ارتَدت زيارة وزير الخارجية الإيراني جواد ظريف للعاصمة السورية، الإثنين، ولقاؤه الأسد، أهمية خاصة في التجاذب الحاصل. فقد بعث الأسد بإشارة ذكَّر فيها الروس بأنه قادر على التقرّب من طهران عندما يتقرَّبون هم من تركيا، لكنّ هامش المبادرة عند الأسد محدود، ولا يسمح بأي توسيع لدور طهران هناك.
على الأرجح، ليس وارداً إسقاط التفاهم الدولي - الإقليمي (إسرائيل، روسيا، الولايات المتحدة) القاضي بـ»قَصقصة» أجنحة طهران في سوريا. وهذا يعني أنّ إيران لن تتمكن من استعادة قنوات الاتصال والتموين والتمويل بشكل فضفاض مع «حزب الله»، كما كانت سابقاً. وهذا يعني أنّ على «الحزب» أن يلجأ إلى وسائل وأدوات أخرى للصمود، غالبيتها من الداخل اللبناني.
وهنا يصبح مُهِمّاً الدور الذي يضطلع به «الحزب» في لبنان، ورغبته في الإبقاء على كل عناصر القوة والأوراق التي يملكها على الساحة اللبنانية لتكريس نفوذه داخل مؤسسات الدولة وخارجها، وتعويض التراجع الذي أصاب إيران وقنوات الاتصال بها من بغداد إلى بيروت، مروراً بدمشق.
إذاً، هنا تكمن معركة «الحزب» في لبنان حالياً. ومن خلالها يمكن تفسير العديد من ظواهر الأزمة السياسية والمالية والنقدية والاقتصادية. ففي الواقع، ما يجري في لبنان ليس معزولاً عن الصراع الكبير الدائر على مستوى الشرق الأوسط ككل، وتنخرط فيه قوى إقليمية ودولية.
يعني ذلك أنه من العبث أن يبحث اللبنانيون في تقنيات الصراع الصغير الدائر على أرضهم: مِن تمَزُّق سعر النقد الوطني إلى انهيار المؤسسات وانطلاق ثورة الجياع. القضية في مكان آخر. إنها في الصراع الكبير الذي يَتمظهر بمسائل تفصيلية.
ثمة مَن يقول: حتى الولايات المتحدة لا تريد تغيير النظام الإيراني. فقط تريد تغيير سلوكه. وهناك مبرّرات حقيقية لهذا الاستنتاج يمكن تفصيلها. لكن التمدّد الإيراني نحو المتوسط وحدود إسرائيل ليس وارداً.
هذه المقولة صالحة لـ6 أشهر آتية. أي إلى أن تتمّ الانتخابات الرئاسية الأميركية، إذا سمحت بها ظروف «كورونا». فإذا كرَّس الرئيس دونالد ترامب حضوره بولاية جديدة يصبح المأزق الإيراني أكبر بالتأكيد.
ولكن، ليس مضموناً أنّ طهران سترتاح إذا فاز منافسه الديموقراطي جو بايدن، لأنّ الاستراتيجية الأميركية تجاه إيران لم تعد متساهلة أساساً. وفي الانتظار، لبنان أيضاً مُصاب بعدوى المأزق الإيراني. وسيتَّكِل على الحظّ للشفاء منها.