طفح كيل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين من السياسة الدولية المدمّرة التي أرهقت الإقتصاد العالمي وكبّدت بلاده أعباء ضخمة. واضحٌ أن القيصر الروسي اتخذ قراراً بقلب طاولة المفاوضات والتنازلات رأسًا على عقب، وعلى رؤوس من هم حولها.
فمن يعرف الرئيس الروسي جيدًا يدرك أنه طوال حقبات حياته المهنية كمحام أو ضابط استخبارات أو كاتب أو مقاتل أو سياسي، لم يتوان رغم المهادنة التي يتقن لعبها عن ثلاثة ركائز وهي: الحرية، التغيير والوفاء. الرجل لا يطيق القيود من أي نوع كانت وشرس في التحرر منها، ولا يهاب صناعة التغيير، ولا يحيد عن الوفاء لمن يكسب قناعته.
في هذه الحقبة المفصلية من تاريخ العالم الحديث وفي أجواء الغطرسة السياسية والخطر الداهم على البشرية من جائحة فيروس كورونا-١٩، غلبت طبيعة بوتين على المشهد وانتفض القيصر الذي امتهن في ماضيه تأدية المشاهد والأدوار الخطيرة، ليسجل دون خوف، وهو الحائز على شهادة دكتوراه في العلوم الاقتصادية، الأهداف التالية:
أولاً: قلب موازين القوى الاقتصادية في العالم كما فعل في تلك العسكرية إثر دخوله الحرب في سوريا إلى جانب الجيش العربي السوري.
بعد اهتزاز استقرار سوق العرض والطلب النفطي العالمي نتيجة أزمة كورونا، و تصعيد الرئيس الاميركي دونالد لترامب تهديداته بشأن فرض ضرائب على النفط الخارجي، اقتنصَ بوتين الفرصة وضرب تكتيكياً سعر النفط الخام الاميركي بضربة ثلاثية الأبعاد، غير مباشرة طالت أكثر من دولة. كيف فعلها؟ وفق الآتي:
-يعرف الرئيس الروسي جيدًا شخصية كلّ من ولي عهد السعودية محمد بن سلمان وحليفه ترامب وراهن على انفعالية الرجلين، فأغضبهما.
-في البدء، شدد بوتين على ضرورة التزام جميع الأطراف في صفقة أوبك، كما الدول العشرة الموجودة خارج التحالف بالاتفاقات الخاصة بخفض الإنتاج لضمان استقرار أسواق الطاقة العالمية، لا سيما الاتفاق على خفض معدل النفط الى ٩،٧ مليون برميل يومياً.
-لعب دور التلميذ الشاطر في نشر النُصح، ولكنه لم يوافق مع بن سلمان على تخفيض الإنتاج وفق شروط الأخير؛ فغضب بن سلمان وكثّف إنتاجه بمحاولة السيطرة النفطية على الأسواق الأوروبية والآسيوية كردّ على روسيا، وكذلك فعل ترامب لأكثر من سبب داخلي وخارجي. فانهار الاقتصاد النفطي.
-توترت العلاقة السعودية-الاميركية ووقعت الخسائر المالية الكبرى، لكن بوتين يدرك ان خسائر بلاده مرحلية، فهو حصّن ساحته النفطية بشبكة خطوط إمدادات منافسة للسعودية وغيرها توفر عليه كلفة النقل والتخزين، التي لا بد ان تتكبدها السعودية واميركا حيث سيقبلا حتماً في المرحلة الآتية بشروط روسيا النفطية.
ثانياً: رسم خارطة تحالفات سياسية جديدة في الشرق الأوسط.
لا شكّ أن الحرب في سوريا كبّدت روسيا الكثير و لكنها حققت بعض ما ترجو منها عسكريا و دبلوماسيًا. يبقى في الجانب السياسي مسألتان يبدو أن الرئيس الروسي ضاق ذرعاً من التسويف في العمل بشأنهما :
-يهمّ روسيا أن تعود سوريا الى العمق العربي عبر بوابتها، لما لذلك من انعكاس على قوّة وجودها على الساحة العربية كوسيط دائم.
-الحلف الثلاثي: سوريا-العراق-مصر في طريقه إلى النشوء بالتزامن مع عودة سوريا الى الجامعة العربية بعد الانفتاح العربي المباشر عليها في الآونة الأخيرة. حلفٌ، يهم روسيا ان يتوسع برعايتها ليضم دولًا عدة وذلك لابعاد سياسية واقتصادية وعسكرية تحدّ من نفوذ الثلاثي اميركا-السعودية-اسرائيل.
-يقلق بوتين من أهداف تركيا، وتشير بعض المصادر الى ان روسيا تعمل على إقناع الرئيس السوري بشار الأسد بوجوب تقديم بعض التنازلات للمعارضة، باشراك بعضها المدعوم من تركيا في الحكم. مسألة معقدة لن تجد طريقها الى الحل قبل تحرير شمال شرق سوريا، وربما قبل تغيير جوهري بالحكم في تركيا.
من حمام السباحة خاصته، حيث اعتاد كل صباح على ممارسة رياضته المفضلة لساعات، يبتسم بوتين وهو العالِم أنه أغرقهم في بحر الخليج. ويعوم.
القانوني المحنك أنجز تعديلات دستورية جوهرية ستبقيه في الحكم، بخياره، حتى العام ٢٠٣٦، وهو القائل: "أنا أغنى إنسان ليس فقط في أوروبا بل في العالم، لأنني أجمع العواطف".