منذ عام تقريبا انشغل الإعلام اللبناني بخبر "إلقاء القبض" على أحد أشهر السماسرة القضائيين، رجل الأعمال سالم عكاري، فتوالت الاتهامات له ورُفعت القضايا، وكما ذكرنا في مواضيع سابقة نال عكاري البراءة من معظم تلك التهم، والتي بأغلبها مركبة كانت تهدف لإبقائه موقوفا، الأمر الذي لم يحصل، فخرج من اتهام النصب والاحتيال وتبيّن أن من ألبسوه صفة المدّعي، يدين بالمال لعكاري، وخرج من اتهام تبييض الأموال بعد بيان هيئة التحقيق الخاصة في مصرف لبنان، وخرج من اتهام تزوير "نمر" السيارات، ولكن ماذا عن الملف القضائي الذي تم التهليل له؟.
بدأت مشكلة عكّاري مع أحد أبرز القضاة السابقين منذ 10 أعوام تقريبا، إثر تداخل المصلحة بين القاضي وابنته المحامية في مكتب محامي أحد خصوم عكاري في دعوى قضائية على علاقة بعالم الأعمال. يومها ظهر إسم عكاري بقوة، ويومها حصل أول "إفتراء" بحق الرجل، عندما تقدّم خ. بشكوى من النيابة العامة التمييزية تحمل الرقم 647/م/ 2011، بجرم التهديد والإساءة الى القضاة، وقال في سياق الشكوى التي حصلت "النشرة" على نسخة منها، وبعد الحديث عن شيكات بلا رصيد وعمليات نصب واحتيال: "اتصلت بالسيد عكاري على رقمه، للمطالبة بالمبالغ المتوجّبة فأخذ يهدّد ويقول أنه على علاقة بجميع القضاة، وأن "القاضي الذي نحن بصدد الحديث عنه" بجيبه".
ولكن بعد تقاعد القاضي المذكور، قام خ.بالتراجع عن الشكوى عام 2012 أمام كاتب العدل في بيروت، و"أُعلن إبراء ذمة سالم عكاري ابراءً تامّا وشاملا من أي حق أو مطلب بعد أن غُرّر بي للتقدّم بها". وهذه العبارة أي "غُرّر بي"، استعملت كثيرا بوجه عكاري في السنوات التي تلت.
اذا محاولة ربط عكاري بالقضاة قديمة، وفي مثل هذه الأيام من العام الماضي، أعلنت وسائل الإعلام عن توقيفهفي ملف الوساطات مع القضاة، الذي يعرف بالدوائر الأمنية والقضائية بـ"ملف المخدرات"، وأنه يُعتبر "الصيد الاثمن" بين السماسرة القضائيين الذين تم توقيفهم منذ بداية الحملة لغاية الآن، علما أنّ التحقيقات أثبتت أنه لم يُسأل عكاري عن هذا الملف بشكل مطلق طيلة مدة توقيفه، وأنه لم يتم توقيفه لأجل هذا الشأن.
حسنا، خرج العكاري من السجن، بعد أن تم الإدعاء عليه بقضايا واتهامات بالجملة، ولكن أين ملف القضاة؟ يقبع الملف لدى التفتيش القضائي، ولم يتم الإدعاء فيه على أحد، ولم يتم توقيف أي قاضٍ عن العمل بسببه، لعدم وجود ما يستوجب الإدعاء، لا بسبب ضغوط قوى سياسية، الّا على سالم عكاري بناء على "صورة" المحضرالموجود امام التفتيش القضائي، مع الإشارة الى ان الادعاء تم عليه وحده ضمن مجموعة من المتهمين في الملف، ومن قبل القاضية نفسها التي انهالت عليه "بالإتهامات"، ولكن حتى اليوم لم يتم توقيف أيّ قاض عن العمل، مع العلم أن اخبار التحقيقات التي نُشرت مع عكاري منذ عام، كانت بمعظمها كاذبة، فخلال التحقيقات تم الإستناد الى علاقات عكاري الشخصيّة مع قضاة، منهم أصدقاء له، ومنهم أبناء بلدته، ومنهم من تزامل معهم على مقاعد الدراسة منذ الصغر.
تكشف مصادر مطلعة أن من الإتهامات التي وُجهت لسالم عكاري، ترميم مكتب أحد القضاة، وهو أحد الأصدقاء المقرّبين له، فتبين أن مسؤول الصيانة في شركة عكاري كان قد أرسل لائحة بأسعار مستلزمات ترميم المكتب، أو ما يُعرف بعرض أسعار، بعد أن طلبها القاضي من صديقه، ونفذ الاعمال على نفقته الخاصة وأبرز الفواتير امام هيئة التفتيش، ومن الاتهامات أيضا بأنه قدّم رشوة لأحد القضاة عبارة عن علبة سيجار، واتهموه أنه قدّم تذكرة سفر بقيمة لا تتعدّى 500 دولار لآخر القضاة، رغم أن القاضي قدم الاثبات حول دفعه الثمن.
وهنا نزيدكم، في احدى المرّات سافر عكاري وعائلته مع صديقه القاضي وعائلته، فدفع القاضي ثمن تذاكر السفر، ودفع عكاري ثمن الإقامة بالاوتيل، وأيضا قدّم الفواتير للتفتيش القضائي، فهل هذه رشاوى أيضا؟، وما هي الملفات التي عمل عليها عكاري مع القضاة؟ ولماذا لم يظهر أي ملف بعد حول هذه السمسرات؟ ولماذا لم يتم توقيف أي قاضٍعن العمل، او يُحال الى التفتيش أو المجلس التأديبي، بحال كان فعلا كنز معلومات؟ وهذه الأسئلة نضعها برسم وزارة العدل والقضاء اولا وأخيرا، فما حقيقة المسألة؟.
بعد أن تنحى عن هذا الملف ما يزيد عن 10 قضاة، فإن حقيقة ما يجري تظهر من خلال قراءة أسماء القضاة المستهدفين، بحيث يتبين بحسب المصادر أن عكاري لا يدفع ثمن صداقته بالقضاة، ولا يُراد أصلا تثبيت التهم عليه، بل تمّ استغلال اسمه وهذه الصداقة لإشعال حرب قضائية سياسية بين قضاة وسياسيين نافذين، فذهب الرجل ضحيتها، وأمضى الأشهر الماضية في دهاليز المحاكم والدفاع عن براءته في كل القضايا التي وُجهت اليه، واليوم يُعاد استعمال اسمه من جديد لتشويه إسم أحد القضاة البارزين الذين دخلوا مؤخرا على خط فضيحة الفيول المغشوش، ويبدو أن "الملف" لم يَنَمْ، بل تُرك لاستعماله غبّ الطلب، لأهداف معلومة ومجهولة.
نالت التشكيلات القضائية الكثير من الأخذ والرد، وستأخذ المزيد اذ أن المعارك القضائية، والمعارك السياسية، والامنية، بما يخص ملفات مكافحة الفساد، لا زالت في بدايتها، وصراع الأجهزة لم يصل الى ذروته بعد، ولكن المشكلة تكون عندما يدفع من ليس له علاقة الثمن.