من علامات الجنون تكرار الأمر ذاته وانتظار نتائج مختلفة»
ألبرت أينشتاين
كثر الحديث في الآونة الأخيرة عند المعارضين بأنّ ما يحدث اليوم هو محاولة تغيير طبيعة النظام الاقتصادي الحرّ في لبنان، وضرب السرّية المصرفية، وفرض نوع من أنواع السيطرة، أو تأميم لأموال المودعين. وبالمضمون المتواري وراء الفرضية، فإنّ صاحب السلطة العليا في لبنان اليوم، أي «حزب الله»، هو من يفرض هذا التغيير بقوة الأمر الواقع. فما مدى صحة هذا الافتراض؟
فرضية أنّ «حزب الله» يتمنّى تغيير نظام لبنان ليس من قبيل التهويل أو الإتهام المغرض، من قِبل من يسمّيهم الحزب أعداء المقاومة، بل هو ما صرّح به جهاراً وتكراراً معظم قادة الحزب. فالهدف الأساسي للحزب، على المستوى العقائدي السياسي، هو جعل لبنان، حسب تصريح حسن نصر الله، «ليس جمهورية إسلامية مستقلة، بل جزء من الجمهورية الإسلامية التي يرأسها وكيل صاحب الزمان»، أي بالترجمة جزء من إيران. ولكن، لا بأس، فليس السعي لهدف سياسي ما عيباً، مهما كان هذا السعي مستغرباً، طالما أنّه يستند إلى الديموقراطية السلمية، أي التي لا تُخضع قرار الناس الحرّ بقوة البطش والتهديد، أي كما يحصل الآن بشكل مستمر في إيران بحق المعارضة.
لكن ما شأني أنا بإيران، فما يريده الإيرانيون هو شأنهم، وواجباتي أنا في لبنان هو مواجهة المشروع بالسياسة، طالما أنّ من يريد تطبيقه يستعمل السياسة، وبغيرها إن استعمل غيرها. ولن أخوض هنا أكثر في هذا الموضوع حتى لا أدخل في متاهات فرضية المقاومة في سبيل تحقيق حلم ولاية الفقيه أم من أجل لبنان وفلسطين!
الحديث يعود هنا للمنظومة الاقتصادية، إن صح تسمّيتها منظومة أو اقتصادية في لبنان. فلو أخذنا المثال الإيراني الاقتصادي، فلا يبدو أنّ النظام أصبح اشتراكياً مثلاً، ومع فرضه بعض نظم التكافل الاقتصادي مثل الخمس مثلاً، لكن طبيعة المبادرة بقيت في صلبها رأسمالية. بالطبع فإنّ حدود حرية المبادرة والتنافس تقف عند حدود رؤيا المرشد والحرس الثوري، والتنافس أيضاً غير وارد مع ما يرغب الحرس بالتزامه من مشاريع. لكن بالعودة إلى لبنان، فقد استفاد «حزب الله» إلى أقصى الحدود من النظام المصرفي القائم، وبالأخصّ من السرّية المصرفية، التي سمحت له ولشركائه وأتباعه بالمشاركة في أعمال تجارية واسعة ومتشعبة. ولكن الأهم، فقد كان هذا النظام المصرفي أحد مداخل المال النظيف للحزب، وذاك الملوث بتبيض الأموال وصفقات المخدرات وغيرها من الأمور. والجدير ذكره، فقد راجعت ما يشمله اقتطاع الخمس لمصلحة السلطة، فتضمن «الحلال المشكوك بأمره لاختلاطه بالحرام...»، وهذا يعني أنّ الحرام يصبح حلالاً إن أخذ الخمس منه! ولكن لا بأس، فالقضية هنا ستُدخلنا في متاهات شتى. المهم هو أنّ الحزب لم يكن على أي خصومة مع النظام المصرفي اللبناني، طالما أنّه يأخذ منه وطره ويخدم له مصالحه، الحلال منها والحرام. لكن الأمور تفاقمت وتغيّرت بعد أن فرضت الإدارة الأميركية ضوابط على الحرّية المصرفية، كما أنّها، ولسبب سياسي لا علاقة له بالقانون والأخلاق، قرّرت تجفيف مصادر المال للحزب، في خضم الحصار على إيران. جدّية هذا القرار ظهرت بوضوح مع ما حصل في بنك جمّال، فالمقاومة هنا للقرار لم تصمد لبضعة أيام، قبل أن يعلن المصرف المذكور استسلامه قبل سقوطه بالضربة القاضية. وهنا بدأت المواجهة، ووضعت قنبلة انفجرت بواجهة مصرف، وبدأت سلسلة الاتهامات والتهديدات المبطنة للمصارف والمصرف المركزي وحاكمه. واليوم، الحديث كله يدور حول كيفية الإنقاذ المالي، أي تصفير ديون الدولة على حساب المصارف والمودعين، بالتالي القضاء على أي فرصة مستقبلية للبنان لأي انتعاش اقتصادي، أساسه هو ما تمّت محاولة القضاء عليه، وقد تتجدّد المحاولة، أو أنّها ستتجدّد بالتأكيد في حال عادت الحكومة صفر اليدين من صندوق النقد الدولي، أو من كل ما تأمّلت بأنّه سيشفق على لبنان بالمزيد من المساعدات.
في خضم حرب تموز، سمعت كلاماً من مسؤولين من «حزب الله» أتوا لزيارتي في منزلي، لأني بدأت بحملة سياسية على مغامرة خطف الجنود وما استتبعها من كارثة على لبنان. ما قاله المسؤول هو بالحرف: «إن كان على الشهداء فما همّكم فكلهم من جماعتنا، أما عن الخسائر فحكومة الرئيس السنيورة تتقن الشحادة، وهي ستأتينا بالمال لإصلاح ما تخرّب!» أجبته: «أولاً من غير الأخلاقي أن تعتبروا الشهداء منكم، فهم كلهم بشر مثلنا جميعاً، أما عن الشحادة فلن يعطينا أحد المال من دون ثمن سياسي، فليس هناك جمعيات خيرية في الدول التي نسعى إليها». ولكن اليوم أزيد عليها، بأنّه ليس من المقبول أن نتحمّل نحن اللبنانيين وزر جميلة ومساعدة أي منظومة أو دولة، ولا أن نزيد الديون علينا بمال سيذهب هباء لخدمة مشاريع عسكرية جديدة لـ»حزب الله».
المدخل الوحيد اليوم لأي حل مؤقت وطويل الأمد، في وقف التدهور المالي ومن ثم الإصلاح الإداري واستعادة المال العام المنهوب وبدء مسيرة النهوض الاقتصادي، لا يجوز من دون وقف مزراب «حزب الله» السياسي والمالي، الذي أفقد لبنان أصدقاءه الذين وقفوا إلى جانبه دائماً، وضرب اقتصاده، كما كل فرص الإفادة مما مرّ على المنطقة، واستعادة المعابر الحدودية من سيطرة الحزب. عدا ذلك، فإنّ كل قرش جديد، في مال جديد، سيذهب في المزاريب.