صحيحٌ أنّ طاولة الحوار التي دعا إليها رئيس الجمهورية ميشال عون حول الخطة المالية والاقتصادية التي أقرّتها الحكومة، اصطدمت بسلاح "المقاطعة" الذي لوّح به عددٌ من المعارضين، سواء لأسباب "مبدئية"، ربطاً ببعض المكاسب "الشعبويّة"، أو لأسباب "لوجستيّة" لرفض بعبدا "انتداب" المدعوّين لمن يمثّلهم.
وإذا كان الحوار الذي أراد الرئيس عون منه، أن يشكّل مساحة التقاءٍ في عزّ المحنة التي يعيشها اللبنانيون، تحوّل بشكلٍ أو بآخر، إلى "ملتقى" لرفاق الصفّ الحكوميّ الواحد، باستثناء رئيس حزب "القوات اللبنانية" سمير جعجع، فإنّ أهدافه المبدئيّة بدأت تتحقّق من خلال اللقاءات التي سُجّلت على هامشه، تحت عنوان "غسل الجليد وتصفية القلوب".
ولعلّ اللقاء الذي جمع عون مع رئيس "الحزب التقدمي الاشتراكي" وليد جنبلاط مطلع الأسبوع حمل الكثير من هذه الدلالات، دلالات عزّزها لاحقاً اللقاءان اللذان جمعا رئيس مجلس النواب نبيه بري بكلّ من رئيس الحكومة حسّان دياب، ورئيس "التيار الوطني الحر" النائب جبران باسيل، وكلّها لقاءاتٌ غلب عليها طابع "التبريد" الذي يبدو عنوان المرحلة بامتياز...
"مبادرات" بالجملة
لا يتردّد معظم العاملين على خطّ لقاءات "تصفية القلوب" التي شهدتها البلاد منذ مطلع الأسبوع، في وضع الجهود المبذولة في هذا الصدَد، ضمن إطار "تحصين الساحة" الذي يشكّل أولويةً اليوم لـ "العهد" لاعتباراتٍ وحساباتٍ عدّة، قد تتصدّرها الرغبة بمواجهة ما يعتبرها مخطّطاتٍ لإضعافه، عبر تعميم نهج "الانتكاسة" في كلّ الاتجاهات، ما يعكس وجود إرادة فعليّة بـ "تعويض" ما فات من الولاية الرئاسيّة.
ويبدو واضحاً أنّ هذا "التحصين" شكّل، بصورةٍ أو بأخرى، الجامع المُشترَك بين معظم "المبادرات" التي أبصرت النور، أو تلك التي لا تزال "تُطبَخ" بسرية تامة، وبعيداً عن الأضواء، ولعلّ أولها اللقاء الحواريّ الاقتصاديّ في بعبدا، ولو تعمّد البعض "إفراغه من مضمونه" قبل حصوله، وهو ما تجلّى خصوصاً باختراع "سجالاتٍ" لا محلّ لها من الإعراب، معطوفةً على سلسلة "الاعتذارات" التي جاءت لتدين مقدّميها، لا صاحب الدعوة، وفق ما يرى المقرّبون من عون.
وإذا كان هؤلاء يغمزون من قناة "الاشتباك" الذي أطلقه تيار "المستقبل" تحديداً، ببكائه تارةً على أطلال "صلاحيات" لم يمسّها أحد، وتغريده طوراً ضدّ "نظام رئاسيّ" لا أسُس متوافرة له أصلاً، فإنّهم يشيرون إلى أنّ "العهد" نجح في "القفز" فوق هذه "الشعبويّة السياسية"، من خلال "اختراقه" صفوف المعارضين بشكلٍ أو بآخر، الأمر الذي جسّده اللقاء بين عون وجنبلاط في عزّ الحملة "الحريريّة"، وهو لقاءٌ أحدث ما أحدثه من "نقزة" لدى "المستقبليّين"،ولو قيل إنّ "البيك" نسّق خطوته مع رئيس الحكومة السابق سعد الحريري، علماً أنّ البعض استعاد من "الأرشيف" تغريدة قديمة للأخير يسخر فيه من "وفاء" جنبلاط.
ولا يخفى على أحد أنّ التصريحات التي خرج بها جنبلاط بعيد اللقاء مع رئيس الجمهورية، أسهمت في تحقيق الأهداف المتوخّاة منه "عونياً"، خصوصاً أنّها شكّلت "انقلاباً" على تصريحاتٍ سابقة له، بدا فيها كمن يعلن "الثورة" على الحكومة، واصفاً رئيسها بأنّه "لا شيء"، فإذا به يقفل الباب بعد اللقاء، أمام إمكانية تغيير الحكومة في الوقت الحاليّ، ولو أنّ التساؤلات عن المدى الزمنيّ لمثل هذه التصريحات، مشروعاً، بالنظر إلى التجارب السابقة مع "البيك".
"التحصين" أولاً!
ولا تنفصل اللقاءات التي شهدتها عين التينة خلال اليومين الماضيين عن نوايا "التحصين" هذه، خصوصاً أنّ "تبريد الساحات" لا بدّ أن يشمل رئيس مجلس النواب نبيه بري، الذي يرى كثيرون أنّه يقود "المعارضة من الداخل"، إن جاز التعبير، وأنّه مَن "يحرّك"، بالحدّ الأدنى، رئيس تيار "المردة" سليمان فرنجية، الذي كان أحد مقاطعي لقاء بعبدا، بعدما سعى إلى تحويل الدعوة الموجّهة له إلى النائب فريد الخازن، أحد أعضاء تكتّله النيابي، غير المنتمين إلى تيّاره السياسيّ.
من هنا، جاء اللقاءان بين بري ودياب، وهو الأول منذ "الصراع العلني" الذي نشب بينهما خلال جلسة مجلس النواب الأخيرة، وبين بري وباسيل، وهما اللذان لا يكادان يتّفقان حتى يختلفا من جديد، لفقدانهما ربما إلى "الكيمياء" المطلوبة في العلاقات السياسية، وهما لقاءان أراد من خلالهما "العهد"، إن جاز التعبير، "تبريد" الجبهة مع بري، توازياً مع "تبريد" سائر الجبهات، تفادياً للدخول في "مناوشات" لا يبدو الوقت مناسباً لها الآن.
ولا يتردّد المُتابعون بربط المبادرات "الرئاسية" هذه، والرغبة بـ "تحصين" الساحة الداخلية في هذا الوقت، بالخطة المالية والاقتصادية التي أقرّتها الحكومة بعد طول انتظار أخيراً، وهي خطة يدرك القائمون عليها أنّها لا يمكن أن تسلك طريق التنفيذ من دون أن تُحاط بالحدّ الأدنى من المقوّمات الموضوعية المطلوبة، وفي مقدّمها "الهدوء"، بعيداً عن "التشويش" الذي يمكن أن يفضي إليه غياب "الاستقرار"، الذي أمكن رصده ولمسه من خلال السجالات التي اندلعت سريعاً، بعيد إقرارها، ولو أنّ الاختلاف حول بنودها أمرٌ طبيعيّ وبديهيّ، علماً أنّ الخطاب الأخير للأمين العام لـ "حزب الله" السيد حسن نصر الله كان أكثر من معبّر على هذا الصعيد، وهو الذي طبعه "الهدوء"، إلى حدّ "مبالَغٍ به"، وفق توصيف البعض.
وانطلاقاً من ذلك، ثمّة من يؤكد أنّ في "جعبة" رئاستي الجمهورية والحكومة المزيد من الخطوات التي يُعمَل على "طبخها" خلف الكواليس، لعلّ في صدارتها "الانفتاح" من جديد على تيار "المستقبل"، وتحديداً على الحريري الذي بات واضحاً أنّه يسعى لقيادة "المعارضة" بالمُطلَق، ولو أنّ المؤشّرات لا تدلّ، حتى الآن على الأقلّ، على حظوظٍ واسعة لنجاح هذه "المبادرة"، في ظلّ "القصف الكلاميّ" المستمرّ على خطّ "الجبهتين"، خصوصاً في ضوء وجهة نظر تقول إنّه إذا كان "العهد" يريد "تعويض ما فات" من انتكاسات اليوم، فإنّ الحريري يريد أيضاً "تعويض ما فات" على مستوى رصيده الشعبيّ، نتيجة "التسوية" التي كبّلته وقيّدته لأكثر من ثلاث سنوات، وهو لن "يفرّط" بالفرصة "الشعبويّة" المُتاحة اليوم، مهما كانت الأثمان.
ما يعني المُواطن!
قد يكون في "التبريد" مصلحة أكيدة لـ "العهد" في هذه المرحلة، وحتى ينجح في "تسويق" خطّة "الإنقاذ" التي أعدّها، والتي تتطلّب العبور من خلال بوابة صندوق النقد الدولي، وهو ما يحتاج إلى "تحصينٍ" في الداخل قبل الخارج.
وقد يكون هذا الهدف بدأ يشهد تجلياته، بدليل ما أمكن "اقتناصه" من تصريحاتٍ لرئيس "الحزب التقدمي الاشتراكي"، الذي لم يكتفِ بالتخلّي عن طلب "تغيير الحكومة"، بل ذهب إلى حدّ "التنصّل" من أيّ أحلافٍ ثنائية أو ثلاثية أو رباعية، كان العديد من الوسطاء لا يزالون يعملون على بلورتها في إطار "جبهة المعارضة".
لكن، إذا كان هذا "التبريد" هدفاً مشروعاً للحكومة وداعميها، فإنّ الأوْلى بالعاملين عليه أن يلتفتوا إلى مساحاته الحقيقية، بعيداً عن العمل على "مصالحات شكلية" لن يتردّد أطرافها بالانقضاض عليها عند أول فرصة سانحة، والمقصود بهذه المساحات ما يعني المُواطن، الذي لم يعد قادراً على دعم حكومة لا توفّر له الحدّ الأدنى من حاجاته، وسط بطالةٍ مرتفعةٍ، وغلاء فاحش، وأجورٍ فقدت أكثر من نصف قيمتها، إن وُجِدت!.