ربما يعتقد البعض، داخل حكومة الرئيس حسّان دياب، أن خطَّتهم الاقتصادية ستنقذ البلد. ولكن، بالتأكيد، القوى السياسية التي تدير الحكومة لا تغرق في هذا الوهم. فهي التي أشرفت على صياغة الخطة، بنداً بنداً، وتَعرِف أنّ بين الخطة وبين النجاح آلاف الكيلومترات... هي مسافةُ القارات والمحيطات الفاصلة بين طهران وواشنطن.
ليس منطقياً الاعتقاد أنّ «حزب الله» بات يسلِّم تماماً بمساعدات تأتي من صندوق النقد الدولي. فموقفه الأساسي معروف: الصندوق خاضع لنفوذ واشنطن، وهو من أدواتها للضغط والسيطرة. وتسليم لبنان بشروط الصندوق سيقود إلى التسليم بشروطه السياسية.
وليس منطقياً القول إنّ «الحزب» طلب مساعدة الصندوق، بعدما رأى أنّ إيران نفسها سبقته إلى طلب الدعم. فهذا الاستنتاج يوحي بأنّ تنسيق «الحزب» مع طهران ضعيف وهامشي، فيما الواقع هو أنّ «حزب الله» هو الذراع الديناميكية الأقوى داخل المحور الإيراني، وهو يرتبط عضوياً بإيران، وبينهما تنسيق استراتيجي عميق.
وليس منطقياً أيضاً القول إنّ «الحزب»، بطلبه دعم الصندوق، سمح لواشنطن بامتلاك ورقة رابحة في لبنان، البقعة الأكثر أهمية استراتيجياً على ساحل المتوسط، وعلى مثلث إسرائيل- سوريا- أوروبا. فطهران تقاتل سياسياً وعسكرياً للحفاظ على أكبر نفوذ ممكن لها، في الهلال الممتدّ عبر بغداد ودمشق فبيروت، وليس في مصلحتها التنازل.
في الموازاة، ليس منطقياً أبداً الاعتقاد أنّ حكومة دياب توجَّهت إلى صندوق النقد رغماً عن إرادة «حزب الله». فهذا أمر لا يمكن أن يغفره «الحزب»، لو حصل، لأنّه يمسُّ جدّياً بنفوذه.
إذاً، في الغربلة، يبدو جوهر المسألة هو الآتي: «الحزب»- ومعه طهران- دخل مناورةً لكسب الوقت، ذات أبعاد ثلاثة:
1- الحصول على حدٍّ أدنى من المساعدات الدولية، ولو بالفُتات (صندوق النقد، «سيدر»...) ما يسمح بتأجيل الانكشاف الكامل وانهيار مرتكزات الدولة، وليس الحكومة فحسب، بضعة أشهر، لعلّ معطيات جديدة تدخل على اللعبة وتبدِّل فيها.
2- الحدّ من الإيحاء بأنّ «حزب الله» يسيطر على الدولة اللبنانية، وأنّه يقف حجر عثرة أمام إنقاذه المالي والاقتصادي بسبب رفضه التوجّه إلى صندوق النقد.
3- في هذه اللعبة، سواء نجحت في تحقيق هذين الهدفين أو فشلت، يكون «الحزب» قد ربح الوقت لتمضية 6 أشهر ثقيلة، تستمرّ حتى تشرين الثاني المقبل، موعد الانتخابات الرئاسية الأميركية، وبأقل قدرٍ من الضغط والخسائر.
وفي هذا الوقت، نجح «الحزب» في إضعاف خصومه على الساحة الداخلية إلى الحدّ الأقصى:
- قوى 14 آذار (السابقة) باتت عاجزةً عن التحرُّك ومشرذمةً وضائعةً حتى إشعار آخر. وقد تمكَّن «الحزب» وحلفاؤه من فكّ أي تنسيق بين «المستقبل» والاشتراكي و»القوات اللبنانية» والكتائب. فبات كل طرفٍ يبحث عن تأمين مصالحه الخاصة. وهو ما أكّده الدكتور سمير جعجع عندما نفى وجود «جبهة معارضة» موحَّدة.
- قوى انتفاضة 17 تشرين التي جرى «تسميمها» بزرع الجماعات الحزبية المدروسة التحرُّك والأهداف، للتشويش والتشويه، بهدف تعطيلها حتى إشعار آخر، لما تتسبّب به من «إزعاج»، بل تهديد، للطاقم السياسي بكامله.
إذاً، بالنسبة إلى القوى السياسية التي تدير الحكومة، الخطة المالية والاقتصادية ليست مطلوبة من أجل الإنقاذ. ولو كانت كذلك، لما استفاضت نصوصها في التنظير والتشريع، في نقاط معينة، فيما تجاهلت تماماً خطواتٍ إصلاحية سريعة وملموسة كان يمكن السير بها فوراً، ومن دون الحاجة إلى «خطط».
وهذه الخطوات، لو أُقِرَّت، كان يمكن أن تُقلِّص الحاجة إلى المساعدات الخارجية إلى الحدّ الأقصى، سواء من الصندوق أو من المانحين في «سيدر» أو سواه. لكن الخوف من الإصلاح الحقيقي، والعواقب التي ستصيب قوى السلطة الحالية والسابقة، هي التي دفعت إلى الهرب من الإصلاح واعتماد خطة «دفترية» وفاشلة.
واضحٌ من خلال الردود الأولى، المتلاحقة بكثاقة، من مصادر الصندوق، ومن واشنطن وباريس والأمم المتحدة وسائر القوى الدولية المعنية بدعم لبنان، أن لا أحد يثق في الخطة الحكومية.
والجميع سأل: «أين الإصلاح في كل هذه الأطروحة، ولماذا لم تبدأ الحكومة بضبط الفساد الواضح في مرافق وملفات فضائحية معروفة، وأبرزها الكهرباء والجمارك والأملاك العامة وأعباء القطاع العام، ومن دون الحاجة إلى خطط وتشريعات جديدة»؟ ولكن لا جواب...
بالتأكيد، المعنيون بالسلطة وبإدارة الحكم والحكومة، والذين يقفون وراء الخطة، يتخذونها أداةً لتقطيع الوقت، في الدرجة الأولى. إنّها تحديداً حكاية «شهرزاد» التي يُراد منها أن تُسلّي شهريار، من شهر أيار إلى شهر تشرين. وبعد 6 أشهر، سيكون لكل حادثٍ حديث.