تتفاقم التداعيات السلبية لفيروس "كورونا" في صيداكما في غيرها من المناطق اللبنانية يوما بعد آخر، ترفع من حدّة الازمة الاقتصادية والمعيشية وانعكاساتها على الناس مزيدا من الجوع والفقر المدقع، لم تبلغ ذروتها بعد، لكن "الحبل على الجرار"مع ناقوس أصوات الناس وتأفّفها من الغلاء وارتفاع الاسعار بشكل جنوني والذي طاول بمجمله طعام الفقراء الذين كانوا يعتبرونه "ملاذا آمنا" وقت الضيق، سقطت عبارة "بفتح علبة طون بمشّي حالي"، او اشتري صحن فول وحمص ومنقوشة او حتى رغيف فلافل، كلها باتت بعيدة المنال ونارا ومحل "تصفير"و"تعجّب"عند قراءة الاسعار.
في خضم الازمة، يكافح الصيداويون في سبيل تأمين قوتهم اليومي بعيدا عن الحاجة وذل السؤال، في المدينة يمكن رصد مشاهد مختلفة كلها تشي بطول أمد الضائقة الاقتصاديّة، حركة خفيفة داخل الاسواق التجاريّة بعدما فتحت المحال ابوابها، وقد تحول الناس من "الاولويات" في "الاساسيّات" دون "الكماليات"، ينصبّ اهتمام المواطنين على شراء احتياجاتهم من طعام وشراب وخضار فقط، لاعداد صحن "الفتّوش" ان استطاعوا اليه سبيلا في شهر رمضان المبارك، مقابل استنكاف الاقبال على شراء الفاكهة التي باتت أسعارها مرتفعة او باتت من "الكماليات"، ارتفاع عدد بسطات بيع العصائر في شهر رمضان المبارك وعربات الخضار الجوالة كمصدر لتأمين لقمة العيش بعد توقف الكثير عن العمل بسبب "التعبئة العامة" و"حال الطوارىء الصحية" او الصرف من المؤسسات والمعامل، تراجع حركة "تاكسي" لانها لم تعد تجدي نفعا امام "أجرة السيارة" اليومية و"النمرة العموميّة" الشهريّة، بعدما كانت ملاذا آمنا لكل عاطل عن العمل، ازدياد عدد المتسوّلين بشكل لافت ولم يعد وقوفهم يقتصر عند المستديرات والاشارات، بل تغلغل الى عمق شوارع المدينة وتحديدا امام المحال التجارية حيث يتوافد الناس لشراء احتياجاتهم اليوميّة، واحيانا بثياب أنيقة توحي بانهم ليسوا متسولين، يسألون الناس ثمن "ربطة خبز" او "أكلة اليوم" أو "اجرة الطريق"، ازدحامأمام المصارف التي قامت بتركيب بوّابات حديديّة مصفّحة لمنع التعّدي عليها او استهدافها واحراقها او دخولها عنوة والعبث بمحتوياتها كما جرى في الاسابيع الماضية، وذلك رغبة من المودعين بسحب أموالهم من الدولار بالليرة اللبنانية بعد صرفه على سعر 3000 ليرة لبنانية، ما يعني حثّهم على استبدال اموالهم الى الليرة اللبنانية وفق حوافز وهمية-سعر الصرف الجديد، فيما هي مقوننة وتتفاوت نسب السماح بقيمة الصرف وفق حساب المودع نفسه.
مشاهد البحث عن لقمة العيش في المدينة لا تنتهي، وخلف كل عربة أو "بسطة" حكاية تختلف في تفاصيلها ولكنها تلتقي في الشكوى من الفقر، يقول كامل فران لـ"النشرة"، الذي وضع "بسطة" صغيرة لبيع العصائر في السوق التجاري، في شهر رمضان المبارك كنت أعمل في مقهى ولكنه أقفل منذ بدء الازمة،لم أعد احتمل الجلوس في البيت، ولم أعد املك ايّ اموال واريد ان اعيش بكرامة مع عائلتي، فقمت بهذا العمل الموقت ريثما يعود المقهى الى فتح ابوابه"، مشيرا الى ان الاقبال على الشراء ضعيف جدا ولكنه افضل من لا شيء في هذه الايام العجاف، والسبب ليس الخوف فقط من تفشي "كورونا" وانما لانعدام السيولة عند الناس والتي زادتها مصيبة الفيروس".
ويؤكد المواطن محمود حبلي لـ"النشرة"، ان القدرة الشرائية عند الناس "زيرو"، ولم يعد بمقدورهم شراء اي شيء خارج "الضروريات" اليومية من أكل وشراب، الازمة ما زالت في بدايتها ونحن نتّجه نحو الاسوأ، ندعو الله ان يلطف بنا والاّ نحتاج الى "معجزة" كي نبقى قادرين على تأمين لقمة العيش، البطلالة ارتفعت والقيمة الشرائية لليرة انعدمت وكل شيء ارتفع سعره، كيف سنصمد امام غول الازمة الاقتصادية والمعيشية الخانقة؟.
حيثما جلت في صيدا، تشعر كأن أبناء المدينة يبحثون عن "طوق نجاة" من الازمة الاقتصادية الخانقة، بعد توالي الازمات من "الانهيار المالي"، الى "المظاهرات" الى "وباء كورونا"، ايام عصيبة لم يعرفها الصيداويون مثلها من قبل، يتردد صدى الشكاوى من الغلاء وجعا لا ينتهي، ومفتوحا على هواجس الخوف من الايام القادمة، ويقول مختار "حي الكنان" خالد السن لـ"النشرة"، لقد سحق ارتفاع الاسعار كل شيء ووصل المواطن الى عنق الزجاج يختنق تدريجيا امام ارتفاع الدولار وامام جشع التجار واحتكارهم، مشيرا الى "ان ما يخفف المعاناة في صيدا القديمة ان التكافل الاجتماعي ورغم كل شيء ما زال موجودا بين الناس، يتقاسمون "لقمة الخبز" و"شربة المي" ويعضّون على الجراح على أمل الفرج القريب"، مشيرا الى ان كثيرا من الخيرين استبدلوا الافطارات الرمضانية بمساعدات مالية او غذائية او بوجبات ساخنة".
المسحراتي فناس
ورغم "الكورونا"، الجوع والفقر، يبقى لشهر رمضان المبارك في احياء وحارات صيدا القديمة، نكهة خاصة، صحيح غابت الزينة وأقفلت المقاهي الشعبية والمساجد أبوابها وعلقت صلاة التروايح بعد الجماعة، ولكن "المسحراتي" بقي حاضرا بطبلته وصوته منادياً بعبارته الشهيرة "اصح يا نايم... وحّد الدايم... رمضان كريم".
ويقول المسحراتي الشاب محمود فناس، الذي ورث المهنة عن والده محمد فناس الذي رحل في العام 2018 وكان آخر الرعيل الأول من المسحراتيّة في لبنان، "قررت ان أكمل مسيرته بعدماترك لي تراثاً كبيرا، ساحافظ عليه وعلى مهنة المسحراتيكي لا تنقرض خاصة في ظل ازدياد ظاهرة المسحراتية غير التقليديين الذين يتنقلون بسياراتهم او على متن دراجاتهم، ويبثون الأناشيد المسجلة عبر مكبرات الصوت، بينما المسحّراتي الحقيقي هو الذي يتنقل سيرا على قدميه ويستخدم حنجرته وطبلته واناشيده الدينية وادعيته ويردّدها بصوته ويخلق اجواء رمضانية روحيّة وتراثيّة يتفاعل معها الكبار والصغار".
ويضيف فناس، انها السنة الثالثة على التوالي، أخرج فيها كمسحراتي في رمضان،لقد كلفت من دار الافتاء وحدّدت لي الأحياء للقيام بهذه المهمة فيها كل ليلة من ليالي شهر الصيام"، ويوضح "أشعر هذا العام بالحزن بسبب وباء كورونا وتردي الوضع المعيشي والاقتصادي لعامة الناس، والمساجد مقفلة وأجواء البهجة غابت عن وجوه الأطفال وكبار السن.