منذ إنطلاق الحراك الشعبي في السابع عشر من تشرين الأول الماضي، تسعى مختلف القوى السياسية إلى رمي مسؤولية مكافحة الفساد على السلطة القضائيّة، داعية الأخيرة إلى القيام بدورها على هذا الصعيد، الأمر الذي يدفع إلى السؤال عمّا إذا كانت المشكلة الحقيقيّة في القضاء، أم أنّ هناك من يريد أن يبعد المسؤوليّة عنه فقط.
البحث في هذا الموضوع يتطلب الإجابة عن سؤالين أساسيين: هل لدى القضاء في لبنان القدرة على تولّي هذه المهمة، وفي حال كان الجواب إيجابيا لماذا لا يقوم بذلك؟ أما إذا كان الجواب سلبيا فمن الضروري معرفة ما هي الأسباب التي تحول دون ذلك، طالما أن مختلف القوى السياسية، في العلن، تدعوه إلى ذلك.
من وجهة نظر الرئيس السابق لمجلس القضاء الأعلى غالم غانم، المشكلة في المناخ القائم والذهنية التي تحكم لبنان، التي ينقصها التصميم والجدّية في طرح الإصلاح ومكافحة الفساد، ويعرب عن أسفه لأنّ الأمر بات موضوع تبادل إتهامات ورفع مسؤوليّة عن عاتق أشخاص بهدف إلقائها على آخرين، أكثر مما هو قرار بالكشف عن كل الإرتكابات التي أوصلت لبنان إلى ما هو عليه اليوم.
وفي حديث لـ"النشرة"، يعتبر غانم أنّ على القضاء، في ظلّ هذا المناخ وهذه الذهنيّة، الذي هو جزء من المجتمع، ألاّ ينسى مهمّته، حتى ولو كانت صعبة في ظلّ الظروف الراهنة، لأن الصعوبة لا تعني الإستحالة، وبالتالي هو قادر رغم العقبات على شقّ الطريق ومتابعة الملفات التي يفتحها حتى النهاية، ويضيف: "على القضاء أن يدرك أنه لا يُملى عليه، كي لا نعود إلى الغرق في قلب الفساد"، ويؤكد أن الأمر يتطلب شجاعة إستثنائيّة.
من جانبه، يعتبر وزير العدل السابق إبراهيم نجار، في حديث لـ"النشرة"، أنّ القضاء لا يستطيع القيام بالمهمّة بشكل كامل، لكن باستطاعتهانجاز أعمال كبيرة، ويرى أن في بعض الملفات يكفي أن يطلب أي مدعٍّ عام تطبيق القانون رقم 44/2015 (تبييض الأموال وتمويل الإرهاب)، من أجل الحصول على المعلومات وملاحقة التحويلات المصرفية لمعرفة أين أصبحت الأموال، ويشير إلى أنّ الملاحقة من صلاحيّة ومهمّة القضاء الجزائي ولا يحتاج إلا لقرار جريء.
ويلفت نجّار إلى أن النيابات العامة في لبنان، لا سيما النيابة العامة الماليّة، تحتاج إلى ملاك وقدرات وتقنيات وخبراء وإمكانات تدقيق عالميّة، إلا أنّه يشير إلى أنها، في العام 2018، لم تكن مجهّزة بأكثر من 6 قضاة، بالإضافة إلى النائب العام المالي، لكنّها نظرت في 8000 ملفّ دون أن يتم توقيف أحد من الفاسدين البارزين، ويؤكّد أن ّ"هذا لا يعني عدم وجود قضاة من القادرين، إنما حتى الآن لم أجد من خلال ممارستي أنّ السلطة القضائية تقوم بكل ما يمكنها القيام به لمراقبة السلطة التنفيذية وغيرها".
في هذا المجال، ينقل وزير العدل السابق تجربة له خلال تولّيه الوزارة، حيث يشير إلى أنه اضطر إلى مراجعة النيابة العامة التمييزية خطياً أكثر من مرة لإفادته عن مصير الملاحقات والتوقيفات والأموال التي جرى تبييضها في ملفّ بنك المدينة، ويكشف أنه لم يحصل إلا على أجوبة من نوع: "تألّفت لجنة من الخبراء للنظر في القيود والتحويلات، لكنها لم تضع تقريرها حتى الآن"، ويضيف: "هذا غيض من فيض، لكن لا يعني أن هذا المدّعي العام أو ذاك مسؤول لوحده، إنما يعطي فكرة عن أنّ لبنان غضّ الطرف منذ سنوات عن فضائح معروفة يقل مثيلها في العالم ويكثر إستعمالها في لبنان".
وفي ظلّ تأكيده أن هذه الورشة يجب أن تكون تاريخيّة، يرى غانم أنّه في ظل القوانين الحالية من الممكن التقدم في مجال مكافحة الفساد، لكن تعديل بعضها قد يساعد، كمثل قانون الإثراء غير المشروع الذي من الممكن تطبيقه، حيث تستطيع النيابة العامة التحرك تلقائياً، لكن في حال تقديم شكوى على الشاكي أن يدفع مبالغ كبيرة كي يستطيع تحريكها، ويؤكّد أن هذه الأمور من المفترض أن تعدّل في القانون، بينما يعتبر أن قانون أصول محاكمة الرؤساء الوزراء أكبر عقبة للسير بالورشة، لأنّ أصول المحاكمة أمام المجلس الأعلى وُضِعت لتمنع المحاسبة بشكل شبه تام، ويضيف: "الضحك على الذقون لم يعد من الممكن أن يستمرّ".
على الرغم من ذلك، يشدّد غانم على أنّ القضاء قادر على السير بشرط الإبتعاد عن المناخ والذهنية القائمين في البلاد، الأمر الذي يتطلب قضاة يملكون الجرأة، بعيداً عن التدخلات السياسية، ويرفضون الإملاء عليهم، لأنّ فتح الملفّات ثم إقفالها لا يمكن أن يستقيم، ويضيف: "لا أقول أنّ القضاء يتصرّف على هذا النحو، لكن هذه هي شروط التي يجب على القضاء التحرك من خلالِها"، ويشير إلى أنّ القوى السّياسية تتغنّى بالقضاء وإستقلاليّته في العلن، بينما وراء الكواليس تمنعه من إكمال طريقه، ويضيف: "هذه مشقّة أمام القضاء لكنها لا تعني الإستحالة".
بدوره، يعتبر نجار أنّ السلطة السياسية مسؤولة عن هذا الدرك الذي أصاب الممارسات القضائية اليومية، بسبب ثقافة التناسي وغض النظر والمحاصصة حتى في إنزال العقاب، ويشدّد على أن النيابات العامة تستطيع التحرك منذ اليوم، حيث لا ينقص لبنان لا القوانين ولا النصوص، لا سيما أن القانون رقم 44/2015 يسمح بتجاوز أيّ ترخيص أو اذن أو رفع حصانة، لكنه يلفت إلى أن "ما ينقصنا هو المبادرة، أيّألاّ يكون القاضي فقط موظف بل أن يتحلّى بما يصبو إليه، أيّ أن يكون ذي سلطة ومبادرة يمكن أن يفرض نفسه معها على النظام السياسي".
وفي حين يشير نجار إلى أنه لسوء الحظ في بعض الأحيان تطرح تساؤلات عما إذا كان يجب اللجوء إلى سلطات قضائية دوليّة، كما حصل مع المحكمة الدوليّة الخاصة بلبنان،يؤكد أن بعض القضاة القيّمين على المرفق القضائي بوسعهم التحلّي بما يمتاز به القاضي الجريء، لكن بعض الممارسات،في الأشهر الماضية،أوحت بأننا "لا نزال في منطق التدخلات السياسية".
في المحصّلة، لا يمكن الحديث عن حرب على الفساد ما لم يقم القضاة بالدور المطلوب منهم، واليوم يستطيعون، رغم الضغوط التي تفرضها المعادلة اللبنانية، القيام بالكثير من الخطوات الهامّة، لا سيّما أنّ القسم الأكبر من المواطنين يريد أن يرى محاسبة حقيقية، بعد أن دفعوا غالياً ثمن غياب منطق المساءلة والمحاسبة طوال الفترة الماضية.