في تصريحٍ مسجلٍ بصوتـه تناقلته وسائل الإعلام، تنبَّـأَ وليد جنبلاط ذاتَ يـومٍ وقال: «أطالبُ بمحاكمتي ومحاكمة الآخرين، لا يستطيعُ أيُّ زعيم أنْ يقول إنّه بـريءٌ من دمِ الأبرياء... كلُّ الزعماء مجرمون، ومن أجل الوصول إلى حـلّ سياسي عادل في لبنان لا بـدّ من الإقتصاص من الجميع، وإلاَّ فسنبقى في دوّامة الحروب اللاّمتناهية...»
صحَّ ما تنبّأ بهِ البيك، وكأنّه كان أيضاً يتنبّأ بحرب الكورونا الآتية من الصين.
ولبنان، منذ أنْ كان الطائف، لا يزال يتراقص بين حربٍ وحرب، الصامتُ منها أكثرُ فتكاً.
ميـزةُ وليد جنبلاط أنّـهُ وإنْ كان متّهماً يتحـوَّلُ إلى بـريء عندما يطالب بمحاكمته على طريقة الشاعر الفرنسي فولتير.
وميزتُـه، أنه بما تنبّـأ بـه نجـا، بخلاف أبي الطيِّـب المتنبي الذي قتلَـهُ بيتُـه القائل: الخيل والليل والبيداء تعرفني.
«الزعماء المجرمون» لا يخجلون، يعتلون المنابر ولبنان في سرير الإحتضار، يتبادلون الإتهام كالملائكة التي تتحدّث بلسان الشياطين، والآلـةُ الكلامية عندهم التي إسمها اللسان آلـةٌ قاتلة بالسُـمِّ الأخلاقي.
بواسطة المحاكمة الذاتية وضع جنبلاط حـلاًّ للخطّـة الحكومية، فإذا كان الزعماء «المجرمون» لا يستطيع أحـدٌ أنْ يوجّـه إليهم إتهاماً ولو على ورقٍ من الورد، فالحـلُّ بأنْ يحاكموا أنفسهم إنْ لم يكن في المحكمة، فعلى طريقة الحجْرِ العدْلي إلى جانب الحجر الصحّي.
ثمـة خطـةٌ أخرى سهلةُ المنال لاسترداد المال الحلال من «الزعماء المجرمين»، إقترحها الوزير السابق وئام وهّاب وهو شاهدٌ من أهله، ومن على منبر تلفزيون «المنار»، قال: «أنا مستعدٌ على أنْ أدلي بأفادتي أمام القضاء عن الصندوق الأسود في ملف الكهرباء وحدها، والذي يـوزِّع 300 مليون دولار سنوياً على خمسة زعماء يتقاسمون هذه المبالغ منذ عشرين سنة على الأقلّ، وأنا مستعدٌ على أن أكشف أسماءَهم واحداً واحداً...»
خمسة زعماء ولا حاجة للتسمية، حتى وإن تلعثم لسان وئام وهّاب بسبب الكمّامات، أوْ تعامتْ عنهم الحكومة وتجاهلهم القضاء، فإنّ الشعب يحاكمهم، يعرفهم بأسمائهم وألقابهم والهوّيات وأسماء الأمهات ورقم السجل وفئة الدم الأحمر، وبما كان عليه وزْنُـهم قبل استباحة السلطة، وما أصبح عليه مـالُ القبَّان بعدها.
هذا في ملفّ الكهرباء، فماذا عن ملفات المشاريع والتلزيمات واستيراد الحليب من السعودية والبطاطا من مصر والقمح المدعوم من أوكرانيا والقمح والشعير من روسيا وغيرها، مع فوارق الأطنان والأسعار، وكيف كان الطحين المدعوم والمازوت المدعوم يضلّ طريقه إلى سوريا.
وهذا أنموذج عابـر عمّـا يعبـر في المعابر الشرعية وغير الشرعية من أطنان قمحٍ ومال يبتلعها الزعماء «المجرمون»، ويبقى للشعب الفقير بضعـةُ أكياسٍ من الشعير كمثل سابق عهده في الحروب الكبرى والمجاعات.
أيّ خطّـة تطرحها الحكومة في ظـلِّ هذا السيل من الفضائح...؟
وأيّ أمـلٍ يُـرجى، إنْ لم يكن الحكام فرساناً يمتطون الخيول، ويرضون بركوبِ الكراسي على ما يقول الشاعر:
وما عنْ رضـىً كانَ الحمارُ مطيَّـتي ولكنَّ مَـنْ يمشي سيرضى بما رَكِـبْ.