موضوع هذا الأحد اللقاء بين الرّب يسوع المسيح والمرأة السامريّة (يوحنا ٥:٤-٤٢)، يَتفرَّد يوحنا الإنجيليّ بسردِ هذا اللقاء الفريد الذي دار فيه حوارٌ جميلٌ جدًا ويعتبر نموذجيًّا بامتياز. هوَ يُعلَّم كمثالٍ في علمِ النفس، بحيث نَجد أنَّ السامريّة كَشفَت ليسوع عن كلّ مكنونات قلبها وخفايا حياتها بثقةٍ كاملةٍ ومِن دونِ أي تردد ولا حتّى شعور بالخوف. رَمَت نَفسَها بكلِّ شفافيّةٍ في أحضانِه كطفلةٍ تَرتمي في أحضانِ أبيها.
احتلَّ هذا اللقاء مكانةً كبيرةً مِن القرونِ الأولى للمسيحيّة وله تَصاوير كنسيّة قديمة جدًا.
سأتوقّف أمام تَصويرين:
التصويّر الأوّل: جِداريّة موجودة في دياميس روما مِن القرن الرابع ميلادي. تُؤكِّد هذه الجداريّة، إلى جانب جداريّات أخرى في هذه الدياميس تعود إلى القرنين الثالث والرابع، أنَّ الفنَّ الكنسيّ هوَ مِن صلبِ الإيمان المسيحي.
شَكَّلت هذه الدياميس مقابرَ لأهلِ مدينةِ روما مِن مسيحيين وغيرهم. وتمَيّزت مقابر المسيحيين بتصاوير رائعة ونقوش على نواميسِ تُمثّل أحداثًا مِن العهدين القديم والجديد، أمثال الفِتية الثلاثة في الأتون، ودانيال ويونان النبيَّين، ووالدة الإله والرّبّ يسوع في حِضنِها، ومجيء المجوس، والعِماد أي الظهور الإلهيّ، والعشاء السرّي، وأعاجيب مِثل شِفاء المرأة النازفة، وتَصوير للرّب يسوع بين الرسولين بطرس وبولس.
فمع اعتلاء الإمبراطور قسطنطين العرش (٣٠٦- ٣٣٧م) ومِيثاق ميلانو عام ٣١٣م الذي أعطى الشرعيّة للمسيحيين بممارسة شعائرهم، بدأ المسيحيون بتشييد كنائس لهم في العَلن ومقابر أيضًا. وازدهر وضع المسيحيين أكثر فأكثر عندما جَعَل الامبراطور ثيودوسيوس في العام ٣١٨م مِن المسيحيّةِ دين الإمبراطوريّة وِفق ميثاق تسالونيكي.
التصوير الثاني: فسيفساء مِن القرن السادس ميلادي موجودة في كاتدرائيّة القدّيس أبوليناريوس في رافينا إيطاليا.
المشهديّة الإنجيليّة العامة في كِلَيّ التَصويرَين هي ذاتها. الرّب يسوع والمرأة السامريّة والبئر. لكن بالمقابل يوجد بعض الفروقات الهامّة والتي تُتَرجِم مفاهيم لاهوتيّة إيمانيّة وعقائديّة بدأت تأخذ مكانها تِباعًا في الأيقونات.
وهنا لا بد مِن التوضيح أنَّ الجداريّات والأيقونات والفسيفساء لا تنفصل عن الليتورجية والإيمان، بل هي تُتَرجِم هذا الإيمان فنيًّا وتنبثق مِنه، إذ هي تُصوّر شَخصيّات وأحداث مِن الكتاب المقدّس أو قدّيسين أو أعياد كنسيّة.
في جِداريّة الدياميس نُشاهِد الرّبّ والسامريّة بِلباسٍ روماني مُتَشابِه تمامًا. كِلاهما واقفان. يَظهر يسوع في الجداريّة فتى شَعرَه قصير ولا لِحية له، وهي بِدورها مكشوفة الرأس. بينما في الفسيفساء نشاهد يسوع جالسًا رافعًا يَده اليُمنى ويُباركها. حَرَكة أصابعه تُلَخّص أوّل وآخر حَرف مِن اسم يسوع المسيح باللغة اليونانيّة القديمة ΙΗϹΟΥϹΧΡΙϹΤΟϹ"" وهذه الأحرفICXC موجودة على أيقونات الرّب وأواني كنسيّة وغيرها.
شَعر يسوع هنا طويل لكن ليس له لحية، ويُوجد خَلف رأسه هالة وسطها صليب. واللباس أصبَح مُختلفًا وأكثر أناقةً.
مَن يقرأ النص الإنجيلي ويتأمل بما هوَ مُصوَّر يَخال نَفسه أمام إنجيل مكتوب، وروحيّة كلمات الإنجيل متجسّدة بالجداريّة.
مِن هنا تدعو الكنيسة دائمًا إلى معرفة الحدث كِتابيًّا مِن أجل فهمٍ أعمق للأيقونات كي لا تبقى مَعرِفتنا سطحيّة دون الغوص في العمق.
يَد الرّب اليمنى مفتوحة وممدودة باتجاه السامريّة. كيف لا وهو الذي أتى ليدعو البشريّة جمعاء إلى ملكوته؟!.
هي تَنظُر إليه بانتباه شديد، وعَلامات التَعجُّب ظاهرة على وجهها. هذا يتطابق مع ما قالته ليسوع: «كَيْفَ تَطْلُبُ مِنِّي لِتَشْرَبَ، وَأَنْتَ يَهُودِيٌّ وَأَنَا امْرَأَةٌ سَامِرِيَّةٌ؟». هذا لأنَّ اليهود كانوا لا يخالطون السامريين ويعتبرونهم عِرقًا أدنى منهم لكونِهم شعب خليط مع الوثنيين.
طبعًا هذا غير موجود في حِسابات الرّب. فهل مَن نَزل مِن السماء ليتّحد بالإنسان ويخلّصه مِن خطيئته يدخل في حسابات ترابيّة ضيّقة؟ وهل هو أتى لفئة مِن دون سواها؟ بالطبع لا.
وها السامريّة التي كانت أليفة الخطيئة تُولَد مِن جديد وتستنير وتأخذ اسم فوتين أي منيرة، وتترك جَرَّتِها وتَركض مُسرعةً إلى أهل مَدينتها تَدعوهم للارتواء مِن الماء الحي كما ارتوت هي.
هذا تمامًا ما يُريده الرّب مِنّا، أن نَترك تُرابيتنا تحت أقدام مُخلّصنا ونسرع كالملائكة حاملين البِشارة إلى أقصى المسكونة.