كثيرون يَعتبرون "حزب الله" مصدرًا للقُوّة السياسيّة والأمنيّة التي جعلت لبنان محور إهتمام دَولي كبير وذات قُدرة على التفاوض من موقع المُتمَكّن، في حين يَعتبر كثيرون آخرون أنّه أحد الأسباب الرئيسة للمشاكل التي يتخبّط بها لبنان حاليًا، كونه جرّ الدولة اللبنانيّة والشعب اللبناني بكامله، إلى صراع إقليمي ودَولي يفوق طاقته، بحيث بات اللبنانيّون اليوم يدفعون ثمن هذه الخيارات غاليًا! وبين هذه النظريّة وتلك، فارق شاسع، والأكيد أنّ الحُلول ليست سهلة، على مُستوى مُختلف الملفّات الصعبة والشائكة المَطروحة.
أولاً: في ما خصّ المعابر غير الشرعيّة، وعمليّات التهريب عبر الحُدود البريّة مع سُوريا، فإنّ ضبط هذه الثغرات يُمثّل حاجة إقتصاديّة ماسة لوقف إضعاف ماليّة الدولة التي تُستنزف لدعم مواد حيويّة، مثل الطحين والمازوت وغيرهما، قبل أن ينتهي جزء من هذه المواد في الأسواق السُوريّة، على يد مافيات تهريب ناشطة بين البلدين! وفي حين أنّ الهمّ اللبناني يقضي بسحب أيّ غطاء عن عمليّات التهريب هذه، وبإيجاد الحُلول اللازمة لمُكافحتها، في ظلّ الصُعوبات العملانية واللوجستيّة المُختلفة، تدفع الإدارة الأميركيّة الملفّ إلى غايات سياسيّة–أمنيّة، تتمثّل في تضييق الحصار على "حزب الله"، عبر سدّ ثغرات يستفيد منها للتحرّك بحريّة بين لبنان وسوريا، وعبر مُحاولة منع وصُول الإمدادات من إيران إليه عبر الجسر السُوري. وليس بسرّ أنّ الإدارة الأميركيّة حاولت منذ سنوات عدّة، فرض نشر قُوّات دَوليّة، على طول الحُدود البريّة بين لبنان وسوريا، وهي عادت إلى تحريك هذا الملفّ خلف الكواليس في المرحلة الأخيرة، تحت ستار ضرورة ضبط مُختلف أوجه الهدر، قبل حُصول لبنان على أيّ مُساعدات دَوليّة من صندوق النقد الدَولي، في حين أنّ غايتها الأساسيّة تكمن في خنق "حزب الله" أكثر فأكثر، ومحُاولة كسر الجسر اللوجستي الذي يُؤمّن وُصول الدعم له من إيران. في المُقابل، يدفع الحزب بدوره لتوظيف هذا الملف الذي يجب على لبنان مُعالجته لأسباب إقتصاديّة قبل أي شيء آخر، في الصراع السياسي الداخلي، وذلك من خلال الضغط للتطبيع مع النظام السوري، بحجّج إقتصاديّة مثل تأمين ضبط الحدود بالتنسيق مع الجيش السُوري، وتأمين تصدير البضائع اللبنانيّة إلى عدد من الدول العربيّة عبر سوريا، ليَطوي في حال نجاحه بذلك، صفحة الخُصومة السياسيّة مع سوريا والتي تعمل أطراف سياسيّة مُختلفة على الإبقاء عليها، طالما أنّ النظام في دمشق لم يتغيّر. كما أنّ "الحزب" يُوظّف ملفّ ضبط الحُدود في الصراع الإقليمي–الدَولي الذي تخوضه إيران، من خلال الترابط اللوجستي والأمني من طهران إلى بيروت، مُرورًا بكل من بغداد ودمشق.
ثانيًا: في ما خصّ المُفاوضات اللبنانيّة مع صُندوق النقد الدَولي، وبدلاً من أن تكون الأمور مَحصورة في الشؤون الإقتصاديّة والماليّة فقط، لإيجاد أفضل السُبل لمنع إنهيار لبنان، فإنّ بوادر تحوير هذا الملف وأخذه إلى الإشتباك السياسي بدأت تُطلّ برأسها. وفي هذا السياق، تُوجد أحاديث إعلاميّة مُتزايدة عن أنّ هذه المُفاوضات التي يُفترض أن تستمرّ لأشهر طويلة، ستحمل مطالب إقتصاديّة–ماليّة بالشكل، وسياسيّة–أمنيّة بالمَضمون، بدفع من بعض الدول الغربيّة التي تقف خلف الصُندوق. ومن هذه المطالب–الشروط المُرتقبة، والتي قد يتمّ ربط حُصول لبنان على المُساعدات، بتنفيذه لها: ضرورة بسط سيادة الدَولة اللبنانيّة على مُختلف المعابر البريّة والبحريّة والجويّة، وضرورة فرض المُراقبة الجمركيّة الدقيقة. وهذه المطالب هي بظاهرها مطالب مَشروعة ومُحقّة، لكنّها تحمل في طيّاتها مشاريع خلاف مع "حزب الله" الذي يعتبر أنّ أيّ إجراءات من هذا النوع، يُمثّل مُحاولة لمنعه من الحُصول على الدعم الخارجي اللوجستي الضروري للحفاظ على قُدراته القتاليّة بوجه إسرائيل.
ثالثًا: في ما خصّ ملفّ التجديد الدَوري لقوّات الأمم المُتحدة العاملة في الجنوب، والذي يُفترض أن يتمّ في آب المُقبل، فإنّ الضغوط الدَوليّة تجدّدت مرّة أخرى، بهدف السماح بتعديل مهمّات القوّات الدَوليّة، ورفع الشروط التي تحدّ من تحرّكها على الأرض، والتي تمنعها من القيام بعمليّات تفتيش للعديد من المنازل، بشكل يجعلها عاجزة عن تنفيذ مضمون القرار 1701. وتضغط الإدارة الأميركيّة على لبنان في هذا الملف، بالتزامن مع التلويح بسحب هذه القوّات، أو على الأقلّ بتخفيض عديدها بشكل كبير، على أمل الحُصول على تنازلات لبنانيّة تُمكّنها من التضييق على العمل العسكري لمُقاتلي "الحزب" قرب الحُدود الجنوبيّة. في المُقابل، يجهد "حزب الله" لمنع أيّ تعديل في طبيعة مهمّات القوّات الدَوليّة، مؤكّدًا أنّها حاجة لإسرائيل وليست حاجة للبنان، حيث أنّها لم توفّر الحماية للبنانيّين من آلاف الخروقات اليوميّة، برًا وبحرًا وجوًا منذ العام 2006 حتى اليوم، الأمر الذي يَستوجب رفض لبنان الخُضوع لأيّ نوع من الإبتزاز في هذا الصدد. لكنّ واشنطن مُصمّمة هذه المرّة على زيادة وتيرة الضُغوط، حيث عادت قنوات دبلوماسيّة مُختلفة للتذكير بضرورة تطبيق القرارات الدَوليّة كافة، وبضرورة تقيّد لبنان بإلتزاماته السابقة، ومنها "إعلان بعبدا"، وحتى بضرورة العمل على سحب سلاح "حزب الله"، مُلوّحة بأنّ هذا الملفّ قد يؤثّر سلبًا على حُصول لبنان على أيّ مُساعدات ماليّة في المُستقبل.
وفي الخلاصة، الأكيد أنّ مشاكل لبنان باقية في المدى المَنظور، وما قد يتمّ التوصّل إليه من حلول أو تسويات على مُستوى هذه الملفّات العالقة منذ سنوات طويلة، سيكون وفق الأسلوب اللبناني الشهير، أي من خلال تدوير الزوايا، واللعب على كلام العبارات في القرارات، ومن خلال إعتماد تسويات ظرفيّة، وأسلوب الترقيع–إذا جاز التعبير، وذلك لكسب المزيد من الوقت، لا أكثر! فالحلّ الجذري يبدأ في توافق اللبنانيّين في ما بينهم حول مبدأ قيام الدولة الواحدة والقويّة، وحول مبدأ حصر السلاح بيد المُؤسّسات الأمنيّة الرسميّة، وما لم يتحقّق ذلك، فإنّ الدوران في الحلقة المُفرغة سيبقى قائمًا، والضغوط على لبنان ستبقى مفتوحة.