اذا كان اللبنانيون قد احترفوا الانقسام حول كل شيء تقريباً، واذا كانوا قد اعتادوا على مقاربة الأرقام انطلاقاً من كونها مجرد وجهة نظر في سوق المهاترات السياسية، فإنّ مثل هذا السلوك يخالف بالتأكيد متطلّبات التفاوض السليم مع صندوق النقد الدولي الذي لا يرأف بمَن يستنجد به حتى لو كان مفلساً.
لم تتأخر علامات الوهن في الظهور على جسم الوفد اللبناني المفاوض، بفِعل النقص في التناغم بين ممثلي الحكومة والمصرف المركزي، الأمر الذي يهدّد، في حال استمراره، بتداعيات سلبية على «موازين القوى» التفاوضية التي هي مختلة أصلاً لصالح الصندوق، حتى قبل أن تبدأ.
ومن المعروف عالمياً انّ المفاوضات مع صندوق النقد تكون في المبدأ صعبة وشاقّة بالنسبة إلى الدولة المتعثرة التي تخوضها، فكيف اذا كانت أيضاً مبعثرة تحت وطأة التجاذبات الجانبية وافتقار ممثّليها إلى رؤية مشتركة، كما ظهر لبنان في البدايات المهزوزة.
علامة فارقة أخرى تطبع انطلاقة المباحثات مع الصندوق وهي الفراغات النافرة في المنظومة او البنية التحتية المالية، إذ انّ التجاذبات السياسية حالت حتى الآن دون تعيين نواب حاكم البنك المركزي ومفوض الحكومة لديه ولجنة الرقابة على المصارف بعدما انتهت ولاية الأعضاء السابقين الذين نالوا، للمناسبة، تعويضات كبيرة تعكس «البَهورة» التي تسود النظام المالي اللبناني (يحصل نائب الحاكم على تعويض 24 شهراً يساوي 650 الف دولار، اي انّ مجموع تعويضات النواب الأربعة يصل الى مليونين و600 الف دولار).
والغريب، انه بدل ان يكون استحقاق محاورة الصندوق حافزاً لتوحيد الموقف بغية تحسين شروط التفاوض قدر الإمكان، تحول مناسبة اضافية لتظهير صورة الخلاف بين الحكومة والمصرف المركزي على طريقة معالجة الخسائر الضخمة، ما يعكس نوعاً من الخِفّة في مواجهة واحدة من أكثر المحطات دقة ومصيرية.
والأغرب هو ان يَستسهل لبنان الذهاب إلى التفاوض بوفد غير منسجم، في حين كان ينبغي التحضير له بشكل أفضل واكثر تحسّساً بالمسؤولية، ولعله كان مطلوباً ان تحصل أولاً مفاوضات تمهيدية بين الحكومة من جهة والمصارف والبنك المركزي من جهة أخرى، قبل أن ينطلق الحوار رسمياً مع صندوق النقد الدولي.
وينبّه العارفون الى انّ صندوق النقد قد يميل نحو تعليق التفاوض، الى حين تغيّر ظروفه، في حال لاحَظ خلال الجلسات المقبلة انّ عوارض الانقسام لا تزال بادية على الوفد اللبناني، علماً انّ الصندوق يضع شرطين إلزاميين لمواصلة الحوار وهما ان يكون البنك المركزي جزءاً عضويّاً من المفاوضات وان يكون مستقلاً في قراراته.
ويلفت هؤلاء إلى وجود طرحين متعارضين حيال طريقة التعامل مع الخسائر المتراكمة التي أفضت إلى انفجار صواعق الازمة وحدوث الانهيار المالي - الاقتصادي:
الأول تعكسه الحكومة التي تعتبر انه يجب الاعتراف بتلك الخسائر المحققة، وبالتالي امتلاك شجاعة معالجتها دفعة واحدة والتوقف عن اعتماد سياسة النعامة، وصولاً الى تَصفير «كيلومتراج» العبء المالي، والبناء من جديد «على نظافة»، مع ما سيرافق ذلك من تحجيم للقطاع المصرفي وإعادة هيكلة له، على قاعدة تخفيض عدد البنوك التي باتت تفيض عن حجم الاقتصاد، وكذلك دمج بعضها، خصوصاً انّ المصارف باتت في حُكم المفلسة بعدما أصبحت عاجزة عن إيفاء المودعين حقوقهم نتيجة سوء إدارتها، إلى جانب مصرف لبنان، لكل الجوانب المالية والنقدية المتصلة بالمرحلة السابقة.
امّا الطرح الثاني فينادي به البنك المركزي الذي يعتبر انه لا يجوز تحميله والمصارف المسؤولية الأكبر عن وقوع الخسائر المترتبة، بالدرجة الأولى، على تفريط الدولة بأموال المودعين التي اقترضتها ثم أنفقتها على تسديد كلفة الهدر والفساد. وبالتالي، فإنّ الحل لا يكون في تدفيع القطاع المصرفي والبنك المركزي ثمن أخطاء الدولة وتخلّفها عن تسديد الديون المستحقة لهما.
ويرى مصرف لبنان انه لا يجوز إعلان إفلاس الجمهورية اللبنانية والتصرّف على هذا الأساس، وانه من غير الضروري معالجة الخسائر مرة واحدة، بل يمكن أن يتم ذلك على مراحل قد تمتد لـ10 سنوات، تعيد خلالها الدولة الى البنك المركزي ما استدانَته ويعيد هو الى المصارف ما أخذه منها، بالترافق مع خطة للتنمية الاقتصادية ترفدها أموال صندوق النقد واستثمارات مؤتمر سيدر، ما يفرز حركة اقتصادية ناشطة تؤدي إلى زيادة الواردات الضريبية للخزينة.
َووسط الخلاف على تحديد المسؤوليات وتوزيعها، يُنقل عن مصدر معني بالمفاوضات مع صندوق النقد الدولي انّ الدواء الذي سيقترحه هو مرّ المذاق، لكن لا بد مِن تجرّعه لأنه ضروري للشفاء، ولو كان من المحتمل ان تترتّب عليه عوارض جانبية، لافتاً الى انه، وبمعزل عن شروط الصندوق ومخاطر وصفته، فإنّ «دود الخَل منّو وفي»، ولبنان لم يعد يتحمّل أساساً فاتورة الفساد المستشري، وأثمان تثبيت سعر الليرة، وأعباء التقاعد الوظيفي في القطاع العام، والهدر في الكهرباء وقطاعات أخرى، والاكلاف الضخمة للاستيراد بالعملة الصعبة وغيرها من السلوكيات العشوائية التي تنتمي إلى مرحلة ما قبل الانهيار.
ويلفت المصدر الى انّ ساعة الحقيقة دقّت، وانّ الوقت حان لاتخاذ القرارات الصعبة التي يدفع لبنان الآن ثمن تأجيلها المتكرر والتحايل عليها، مُنبّهاً إلى انّ كل من سيحاول الاستمرار في تعطيل تلك القرارات الضرورية او التفلّت من موجباتها يكون عديم المسؤولية والضمير لأنه يمنع بذلك إنقاذ ما يمكن إنقاذه.
ويكشف المصدر المتخصّص في الشأن المالي انه حذّر بعض المسؤولين من أنّ القطاع العام الذي يشكّل ركيزة الدولة سيكون مهدداً بالانهيار بعد نحو 5 أشهر، ما لم تراجع القوى السياسية حساباتها وتبادر إلى التخلّي عن ترددها قبل فوات الأوان، مشيراً إلى أنّ هذه القوى اختارت حتى الأمس القريب أن تعتمد المزايدات والشعبوية في نَهجها الاقتصادي والمالي حتى تكسب رضى ناخبيها وتدغدغ عواطفهم، ولكن عليها ان تعرف انّ هؤلاء الناخبين صاروا ضحايا سياساتها التي أفقرتهم وهم يدفعون حالياً فاتورتها من لحمهم الحي.
كذلك، يدعو المصدر المصارف والقطاع الخاص والهيئات النقابية في القطاع العام إلى تقديم التنازلات والتكيّف مع مستلزمات الواقع المستجد، لأنّ المكابرة التي اعتمدتها هذه الجهات سابقاً ساهمت في الوصول إلى المأزق الحالي بعدما تمسّكت بمكاسب وخيارات لا تتناسب وقدرات الخزينة ولا تراعي الحقائق الاقتصادية والمالية، فكانت النتيجة انّ البنوك أضاعت رأسمالها، والمودعين فقدوا مدّخراتهم، والموظفين خسروا مفعول التعديل في سلسلة الرتب والرواتب، والمتقاعدين فقدوا قيمة معاشاتهم التقاعدية.
ويتوجّه المصدر الى الذين يعيشون ما يشبه حالة إنكار للواقع بالقول: «صار لازم تتضَبضَبوا...».