بالمعنى السياسي، المفاوضات مع صندوق النقد الدولي يقودها «حزب الله» تحديداً. هو صاحب «الكلمة الأخيرة» في حكومة الرئيس حسّان دياب. والدليل أنّ الحكومة لم تجرؤ على تطوير موقفها من الصندوق إلّا بعدما سبقها «الحزب». هو انتقل من مقاطعة الصندوق إلى طلب استشارته، ثم مساعدته المالية، وعلى خطاه مَشت الحكومة. واليوم، هو يترصّد المفاوضات. فإذا أزعجته شروط الصندوق، سيتدخل سريعاً ويقرِّر ما إذا كان سيقطع المفاوضات أو يتجاوب.
في منظاره الاستراتيجي الدقيق، يعرف «حزب الله» أكثر من غالبية القوى السياسية الأخرى، حجم التحدّي الآتي إلى لبنان حالياً، في سياق التحوّلات العميقة المرتقبة في الشرق الأوسط، والتي تتبلور ملامحها في النصف الثاني من العام 2020. وهو يعرف أنّ الكيانات كلها، بما فيها لبنان، ستتعرّض لاهتزازات إضافية عنيفة قبل أن تستقرّ.
يترقّب «الحزب»، ومعه إيران، نهاية خلط الأوراق الجاري بين القوى الإقليمية والدولية، والذي سيفرز معادلات جديدة بين الحلفاء والخصوم. وفيما يتفرّغ الإيرانيون لمواجهتهم الحاسمة مع واشنطن، تتّسع الهوة في سوريا بينهم وبين موسكو وتُنبئ بمواجهة مكشوفة. وفي الأسابيع الأخيرة، أوحَت التطورات بأنّ نظام الرئيس بشّار الأسد يحرص على استمرار ارتباطه بالنفوذ الإيراني كأولوية، وهذا ما يثير استياء روسيا.
ويتردّد في أوساط ديبلوماسية أنّ الرئيس فلاديمير بوتين ملتزم في سوريا تعهداتٍ معينة، ومنها تحريك العملية السياسية وتشكيل حكومة متوازنة وإبعاد النفوذ الإيراني، وهو لذلك يسكت عن الضربات التي يسددها الإسرائيليون للمواقع الإيرانية هناك. لكنّ الأسد وإيران يرفضان الرضوخ لهذه الشروط.
ويقرأ المتابعون هذا المعطى بكثير من الاهتمام. فدعوة الأمين العام لـ»الحزب» السيد حسن نصرالله إلى انفتاح لبنان الرسمي على سوريا، في هذا التوقيت، تهدف إلى إراحة الأسد، وصيانة الجسر الذي يربط بين إيران والعراق وسوريا فلبنان، وإحراج القوى الإقليمية والدولية بفرض أمرٍ واقع مفاده أنّ نظام الأسد ليس معزولاً عربياً وأنّ لبنان قد استعاد علاقاته الطبيعية معه. فالتنسيق مفيد لإيران في لبنان وسوريا معاً.
ومن هذه الزاوية أيضاً، ينظر «الحزب» بعين الشكّ إلى توقيت فتح ملف التهريب الحدودي على مصراعيه، وتسليط الضوء على كونه سبباً أساسياً عن الكارثة المالية. وفي تقديره أنّ اختيار هذه اللحظة لاستثارة الملف، وبهذه الحدّة، يوحي برغبة البعض في فرض ترتيبات جديدة على الحدود اللبنانية - السورية، أي سياسياً قطع الجسر الإيراني، جسر التمويل والتموين. وهذا ما يعتبره «الحزب» خطّاً أحمر.
ما هو الاتجاه الذي يتبنّاه «حزب الله» في اللحظة الحالية من المواجهة؟
المتابعون يقولون: بالنسبة إليه، الصورة واضحة. هو يخوض معركة وجود، من ضمن المعركة الكبرى التي تخوضها إيران مع الولايات المتحدة وحلفائها. وهو يجد نفسه في وضعية عزلة دولية تتنامى.
لذلك، غادر «الحزب» موقعه الدفاعي وقرَّر الانتقال إلى الهجوم، مستفيداً من متانة تحالفاته الداخلية، في السلطة، بعد التخلّص من تركيبة 2016 وحكومة الرئيس سعد الحريري والشراكة «المُتعِبة» مع العديد من قوى 14 آذار.
المطلعون يقولون: لن يفوّت «الحزب» لحظة تاريخية يعتقد أنها ستؤهله ليكون الأقوى، في أي معادلة داخلية تفرض نفسها في المرحلة المقبلة. وهو إذ يمتلك القدرة سياسياً وأمنياً، فسيقاتل دفاعاً عن موارده وقدراته المالية أيضاً، كما يقاتل دفاعاً عن موارده وقدراته الدفاعية والأمنية وهوامش حركته السياسية.
ولذلك، في الصدام المتوقع مع صندوق النقد الدولي وشروطه، سيصعِّد «الحزب» إلى الحدّ الأقصى. وهو يعرف أنّ أحداً في لبنان لا يستطيع أن يفرض عليه أمراً بالقوة. لكن مشكلة «الحزب» هي أنّ صندوق النقد هو خيار اضطراري ولا بديل منه إلّا الانهيار والفوضى. ويريد «الحزب» بأيّ شكل تجنيب لبنان بلوغ هذه النقطة.
البعض يقول: «الحزب» وضع سقفاً لشروطه مع الصندوق وليس مستعداً لتجاوزه، أيّاً كانت العواقب. لكنّ آخرين يراهنون على براغماتية «الحزب»، وإيران مِن ورائِه. ويتوقعون أن يتجاوب «الحزب» مع شروط الصندوق، مهما كانت قاسية، فيتجرَّع الكأس المرّة ما دامت الخيارات الأخرى معدومة.
وهنا يصبح التحدّي أكبر. فليس سراً أنّ شروط الصندوق تحمل أبعاداً سياسية. وإذا تجاَوب «الحزب» مع الصندوق فإنه سيكون قد دخل في لعبة مقايضات حول مسائل حسّاسة ربما، داخلية وإقليمية.
وفي ضوء هذه المقايضات، يطمح «الحزب» إلى تكريس موقعه، صاحب النفوذ الأول في لبنان، بمباركة دولية وإقليمية، مرتكزاً إلى سابقة، وهي تكريس نفوذ الأسد الأب، ثم الابن، عشرات السنين.
في الأوساط القريبة من «الحزب» يقال إنه في المرحلة المقبلة ربما يحقِّق أهداف «المؤتمر التأسيسي» تلقائياً، ومن دون عناء انعقاده، وبتغطية خارجية. فهل الأرضية مناسبة فعلاً لهذه الطموحات؟