تنتصبُ الأيقونةُ أمامَنا كمثالٍ لأصيلٍTypos/Proto typos هي نافذةٌ إلى الملكوتِ تَضَعُ نُصبَ أعيُنِنَا ما نحنُ مدعوُّونَ إليهِ.
لا وقتَ لنضيِّعَهُ، فالوقتُ ثمينٌ وحياتُنا قَصيرةٌ.
وُلِدَتِ الأيقونةُ مِنْ رَحمِ الكنيسةِ وإيمانِها. هي كِتابٌ مُقدَّسٌ مَكتوبٌ بخطوطٍ مِن نورٍ، وتُمثِّلُ أشخاصًا نورانيينَ أو مَشاهِدَ نورانيَّة، مِن الكتابِ المقدسِ، أو مِن سِيرِ القدِّيسينَ، أو مِن أعيادٍ كنسيّةٍ.
كلُّ شيءٍ في حياتِنا يجبُ أن يكونَ نُورٌ، وبانعدامِهِ يَتوَلَّدُ الظلامُ ونَدخُلُ عَتمَةَ الليلِ الهالِك.
وعلينا أن نَتنقَّى مِن الدَّاخلِ ليستنيرَ ذِهنُنا فَنُبصِر. فإذا كانت عُيونُنا مُغطاةً بظلمةِ الخطيئةِ لا نُبصِرُ شيئًا. وهذا ما قَصدَهُ الرّبُ بقوله: "وَإِنْ كَانَتْ عَيْنُكَ شِرِّيرَةً فَجَسَدُكَ كُلُّهُ يَكُونُ مُظْلِمًا، فَإِنْ كَانَ النُّورُ الَّذِي فِيكَ ظَلاَمًا فَالظَّلاَمُ كَمْ يَكُونُ!"(متى ٢٣:٦).
فليسَ كلُّ صاحبِ نَظرٍ عِندَهُ بَصيرة.
يأتي هذا الأحدُ ليَضعَنا أمامَ الأعمى الذي شَفاهُ يسوع (يوحنا ٩). هو أصبحَ بَصيرًا والفَرِّيسيون ظَلُّوا عُمياناً. الرَّبُّ ما شَفاهُ إلّا ليجعَلَهُ ابنًا للنور وشاهدًا له.
هوَ اعترفَ بأنَّه كانَ أعمى، أمّا هم فلم يَعترِفوا بِعَمَاهم، لأنَّهم ما أبصَروا إلّا صَنميّتَهم، فقد حَوَّلوا عِبادَتهم طُقوسًا جامدةً مُتَحَجِّرةً حَرفيّةً لا رُوحَ فيها. لِذا نَراهُم قَد خافوا مِنَ الذي صَنعَ الرحمةَ في يومِ السبتِ، إذ كانوا قَد جَعلوا إلهَ السبتِ مائتًا لا حياةَ فيهِ.
تمسَّكوا بسلطتِهم مُتعالينَ وعاشقينَ للمَظاهرِ، وخَشَوا بالتالي أن يخسروا هذه السُّلطةَ لأنَّهم بَاتوا يَعيشون في الجمادِ، وفارقَتهُم النِّعمةُ وأصبحَتْ قُلوبُهم بِلا رَحمة.
فلا رَيب إن قال بولس الرسول: "الَّذِي جَعَلَنَا كُفَاةً لأَنْ نَكُونَ خُدَّامَ عَهْدٍ جَدِيدٍ. لاَ الْحَرْفِ بَلِ الرُّوحِ. لأَنَّ الْحَرْفَ يَقْتُلُ وَلكِنَّ الرُّوحَ يُحْيِي"(٢ كورنثوس ٣: ٦).
ولكنَّ خَطرَ اليهودِ هذا، يَنتقلُ إلينا إذا نَصَّبنا أنفُسَنا آلهةً، وجعلنا الليتورجية المقدَّسة تَخدُمُنا عِوَضَ أن تَكونَ تَسبيحًا لله، بَعد مَسيرةِ اتّضاعٍ وتَوّبة.
نَقرأ في عظات أستيريوس أسقف أماسيّا (بلاد البُنط) في تركيّا حاليًا، (٣٧٨/٣٩٥م – ٤٠٠/٤٣١م) كلامًا صَارخًا يحذِّرُ فيه أبرشيّتَهُ مِنَ الوقوعِ في العبادةِ الجامدةِ المبنيَّةِ على المظاهرِ فيقول: انتبهوا، لقد حَوَّلتُم الإنجيلَ إلى قِطعِ قِماشٍ مُطرّزةٍ على ثيابِكم: الرّب والتلاميذ، العجائب والشفاءات، عرس قانا الجليل والمخلّع، الأعمى الذي صَنعَ له يَسوعُ مُقلتَينِ مِنَ الطينِ، نازفة الدَّمِ والمرأة الخاطئة التي سجدَتْ على أقدامِ الرَّبِّ، إقامة لعازر. كلّها أصبحت خيوطًا مذَهَّبةً وملوَّنةً على ثيابِكُم الفخمة التي تتمخترونَ بها متباهينَ.
أحبَّ هذا الأسقفُ الأيقوناتِ والتَصاويرَ، ولكنَّهُ بالمقابلِ حَذَّرَ مِن المغالاةِ بها، ولم يَنسَ بالتالي الهدفَ الأساسيَّ مِنها، وهو أن نَتعرَّى مِن المجدِ الترابيِّ لنلبسَ ذَهبَ الرَّبِّ الصَّافي. ألَمْ يقُلْ لنا الرّبُّ "أُشِيرُ عَلَيْكَ أَنْ تَشْتَرِيَ مِنِّي ذَهَبًا مُصَفًّى بِالنَّارِ لِكَيْ تَسْتَغْنِيَ، وَثِيَابًا بِيضًا لِكَيْ تَلْبَسَ، فَلاَ يَظْهَرُ خِزْيُ عُرْيَتِكَ. وَكَحِّلْ عَيْنَيْكَ بِكُحْل لِكَيْ تُبْصِرَ"(رؤيا ١٨:٣).
ويُضيفُ الأسقف: "لا تَكتفوا بمخلَّعٍ مرسومٍ، بل ابحثوا عَن مخلَّعٍ مشلوحٍ في مكانٍ ما وساعدوه. ولا تَكتفوا بتردادِ قِصّةِ نازفةِ الدَّمِ، بل ساعدوا المريضَ ومدّوا يدَ المساعدةِ للمحتاجِ، وارحموا الأرملةَ واليتيمَ. لا تقرؤوا فقط كيفَ تابَتِ المرأةُ الخاطئةُ وتنقلونها بتصاويرَ، بل اجعلوا مِن قلبِكُم قلبًا تائبًا يَذرِفُ دَمعًا على خطاياه. لا تُصوِّروا فَقط إقامةَ لعازرَ مِن بينِ الأمواتِ، بل استعدُّوا لاعتِرافِكم عندما يَستدعيَكُم الرَّبُّ إذ كلُّنا سنقفُ أمامَهُ لا محالة(يوحنا ٢٩:٥).
ويُكمِلُ: لا تَقفوا عِندَ تَصويرِ عَجيبةِ إشباعِ الخمسةِ آلافِ شخصٍ، بل املأوا سِلالَ الناسِ الجائعة. ولا تصوّروا الأعمى فَقط بل عزّوهُ برأفتِكم، هكذا تَكون صَلواتُكم مرضيّةً عند الله.
نهايةً، الرَّبُّ يدعونا لنكونَ أيقوناتِه الحيَّةَ اللامعة، ومِن أجلِ ذلكَ طَلبَ يسوع مِن الأعمى أن يغتسلَ في بركةِ سِلوام قبلَ أن يُبصرَ، عَلَّنا نَفهمُ بأنَّنا لن نَستطيعَ أن نَقولَ مع الأعمى: "كُنْتُ أَعْمَى وَالآنَ أُبْصِرُ"، إن لم نَغتَسِلْ بمياهِ مَعموديّةِ توّبتِنا الدائمة.