وقف الواعظ في حضرة الله والمؤمنين، ليعظ المؤمنين بما هو لله. صَال وجَال وحارَ ودارَ، مُحاولاً إقناع هؤلاء التائقين إلى خبرٍ مُفرح، باستقامة عقيدته وضلال عقيدتهم. قال لسامعيه: "أولئك الذين... أشرارٌ فاسدون! أولئك الذين... أدوات الشّيطان... الشّيطان فَعل... الشّيطان يَفعل... الشّيطان سيَفعل... الشّيطان... الشّيطان". ملأ الواعِظ، الغيور على الدّين وأهل الدّين من غَفلَة رؤساء الدّين، الزّمان والمكان بالحديث عن الشّيطان، وفي الختام قسَّم وعزّم.
طَعَن الواعظ ولَعَن، وأرغى وأزبدَ، وانفجَرَ غضباً وغيظاً، وهدَّد وتوعَّد خصوم الدّين الألِدَّاء، وكاد أن ينهار وهو يبحث عن الحجّة تِلو الأُخرى، ليقصف جبهاتهم بِما يحمل في جُعبته من آياتٍ بيّنات، وليُظهِر لتابعيه، ومن خلالهم لأسياده الضّالّين، استقامة عقيدته وضلال عقيدتهم؛ وكيف لا وهو المؤمن الأمين، والغيور الحليم، والصّادق المُستقيم، والنّبيه الحكيم، واللّبيب الفهيم، ولا مَن يُجاريه في إيمانه وغيرته وصدقه واستقامة عقيدته وعلمه وحكمته، ولا حتّى في ما هو عليه!.
شيطَن الواعظ الضّنين على الدّين وأهل الدّين أسياده المَنكودين، وأفرغ في عقولِ سامعيه، ماء دلوه المملوء سُمّاً وبلاهةً وهبلاً وبشاعة وضلالاً وبيّناتٍ من ماضٍ أَفَل. ضرب الواعظ المُتحذلق على آذان سامعيه، فَسَدّها عن نفوذِ صوتٍ غير صوته إليها، لئلاّ يسمعوا وينقادوا لكلمةٍ غير كلمته، ولفكرٍ غير فكره، ولعقيدةٍ غير عقيدته، ولتعليمٍ غير تعليمه، ولمسلِك غير مسلكه، ولجماعةٍ غير جماعته. وسامعوه صاغرون... راضون... مُصفّقون... مُهلِّلون، ومزهوّون بما أتاهم به نبيّهم الحقيقي، صاحب والحجّة والبرهان والذّهبيّ اللسان. شوّش الواعِظ أفكار سامعية بِما تيسّر له فتاتٍ لمَّه من هُنا وهناك، فأيقظ فيهم ثورة الغضب على مَن غضب هو عليهم، وحوّلهم إلى أدوات تُماحِك وتُقارع وتُجادل وتُثرثِر وتُقلِق وتُشَوّش وتتهجَّم وترفع صوتها أينما كان، وحتى في قدس أقداس المحبّة. أدواتٍ تَسير على غير هُدى، تنشر البلبلة حيثما حلّت، وتُحاول بالعنف أن تُجرّع الجماعة الأصليّة سُّم الهبَل "المقدّس" الذي تجرّعته، وإلاّ فالفوضى المُنظّمة!.
تكلَّم الواعظ في حضرة الله والمؤمنين، باسم الله، وفاته أنّ إلله ليس إله تشويش وفتنة وشغب، بل إله سلام (1قور14: 33). وفاتَه كذلك أنّ كلّ خطاب ديني كان أم غير دينيّ، يُوقد نار الغضب ويُؤلّب إنساناً على إنسان وجماعة على جماعة، هو خطاب تحريضيّ، والتّحريضي تشويشيّ، والتشويشي تأليبيّ، والتأليبيّ تخريبيّ، والتخريبيّ تدميريّ، والتدميريّ شيطاني. نعم، شيطاني؛ فالشيطان هو هُنا بالذّات، في هذا الفكر التشويشي، الذي يُوّلِد خربطةً وحرباً وخراباً ودماراً. في هذا الغضب الذي يَنشُجُ حقداً. في هذا الهبل الذي يخلق تعصّباً وأصوليّة. وفاته أيضاً، وهذا هو الأبشع، أنّ المنبر المقدّس هو للكلام المقدّس فقط، وأنَّ الخطاب الدّيني الوحيد المقبول من على هذا المنبر، هو الذي يؤلّب الإنسان على نفسه ويدعوه إلى الثورة على الذّات، والكيان الدّاخلي والتوبة وتغيير المسار والمصير.
من هو هذا الواعظ ومن أين أتى؟ في أيّة مدرسةٍ لاهوتيّة تنشّأ؟ مَن سكت عن تنشئته؟ مَن دَعَمه؟ مَن سهّل له؟ مَن شجّعه؟ مَن غضَّ الطّرف عنه؟ مَن سَوّق له؟ ومئة سؤال وسؤالٍ. مَن موَّل محميّته؟ مَن أذِن لها بالعمل في الحظيرة الكنسيّة؟ مَن سمح له بأن يعبثَ في العقول؟ بأيّةِ سُلطةٍ يؤَلّب القطيع على الرّاعي؟ ومئة سؤال وسؤال. والأهم من ذلك كلّه هو، من سيوقف هذا الموَشوش والمُحرِّض عند حدّه؟ أيّة جهة؟ أيّة سُلطة؟ أيّة مرجعيّة؟ ومئة سؤال وسؤال. والأهم من الأهمّ هو أنّ هذا الواعِظ ليس شخصاً بل أشخاص! فمَن تُراه يتجرّأ ويضع حدّاً لهؤلاء الأشخاص الذي يَعيثون في العقيدة وفي الحظيرة فساداً؟.