بينما تخوض الحكومة محادثات صعبة وطويلة ومعقدة مع صندوق النقد الدولي للحصول على مساعدات مالية الخزينة هي بامس الحاجة اليها، وتحاول في نفس الوقت جاهدة انعاش مقرارات مؤتمر "سيدر" علّها تستفيد من بعض مشاريعه ما ينعكس ايجابا على القطاعات الاقتصادية والانتاجية لبنان يحتاجها لوقف الانهيار الذي يعاني منه.
وبينما الدول والمنظمات الدولية التي تهتم بوضعنا الداخلي وتريد مساعدتنا اقله ظاهريا بدءاً من صندوق النقد الدولي والبنك الدولي والاتحاد الأوروبي وصولا الى الامم المتحدة...، تشدد على ضرورة وقف الهدر بكل اشكاله لا سيما في قطاع الكهرباء، الذي يستنزف خزينة الدولة من دون افق. وكل الخطط والاقتراحات الدولية تطالبنا اولا البدء وسريعا بإصلاح قطاع الكهرباء كي لا تذهب المساعدات الى سلّة هذا القطاع "المقدوحة" والتي تستوعب سنويا حوالي مليار دولار هدرا وفسادا.
على الرغم من كل ذلك يبدو وكأن الحكومة اللبنانية تغرد خارج سرب القوانين والاصلاحات، التي وحدها يمكنها ان تعيد الى قطاع الكهرباء فعاليته الاقتصادية والمالية، لكي يلعب دورا ايجابيا في دفع القطاعات الانتاجية الى منطقة الامان، وبالتالي المساهمة الفعالة بانقاذ الخزينة اللبنانية من الافلاس والعجز. فقد وافق مجلس الوزراء على طرح وزير الطاقة والمياه ريمون غجر التفاوض مع أربعة عروض تقدّمت بها شركات أجنبيّة مهتمة ببناء معامل إنتاج الكهرباء في لبنان، وهي: "أنسالدو"-إيطاليا، "جي إي" GE–فرع فرنسا، "سيمنس"–ألمانيا، "ميتسوبيشي"–اليابان، اضافة الى اهتمام شركات صينية بهذا المشروع، وفوّض المجلس الوزير التفاوض مع هذه الشركات وفقا "لمسودّة اتفاق" في مهلة اقصاها ستة اشهر على ان يعود اليه لاتخاذ القرار المناسب.
ان هذا القرار يكرس فعليا التفاوض بين "دولة وشركة خاصة"، ويؤدي الى الهروب من إجراء مناقصات شفافة لبناء معامل جديدة وفقا للقوانين اللبنانية ولتوصية المجتمع الدولي. وسيؤدّي حتما الى خلق الشكّ والريبة، خصوصاً أن حِبر فضيحة عقد شركة "سوناطراك" الجزائرية لم يَجفّ بعد، هو الذي أثبت فشل الاتفاق "من دولة إلى شركة خاصة"... فلماذا نُعيد الكرّة في ملف الكهرباء؟!.
بينما تفعيل قطاع الكهرباء وإخراجه من بؤرة النزف القاتلة ليصبح قابلاً للحياة لديه طريقا واحدا، وهي تطبيق القوانين المرعية الاجراء فورا ومن دون تردد، لا سيما القانون الأساسي الرقم 462/2002، واهم ركائزه تعيين هيئة ناظمة مستقلة غير مسيّسة لقطاع الكهرباء وفق الية شفافة. ان التطبيق الفوري لهذا القانون يؤدي حكما الى تشركة مؤسسة كهرباء لبنان وفقا لالية واضحة، كما اقرار مبدأ استقلالية كل من نشاطات إنتاج ونقل وتوزيع الكهرباء وكيفية ادارة هذه القطاعات... ان التذرع بعدم امكانية تطبيق هذا القانون ساقط، فالقوانين المرعية الاجراء يجب ان تطبق وان يعمل بها في حال عدم تعليقها او الغائها بموجب قانون واضح وصريح يصدر عن السلطة التشريعية. وهو ساقط لاسباب عمليّة، فقد تم أخيراً تعديل المادة السابعة من القانون 462 بموجب القانون رقم 129/2019 والذي ينصّ صراحة على بناء المعامل ضمن نظام الـBOT، لكن عبر اللجوء الى مناقصات عموميّة شفافة تجرى بواسطة دائرة المناقصات، على ان يعطي مجلس الوزراء الرخص للانتاج بدل الهيئة الناظمة. وطالما ان دفتر الشروط لانشاء هذه المعامل جاهز وفقا لما صرح به وزير الطاقة والمياه فلماذا لا يطبق هذا القانون؟ وعندها فليفُز العرض الأفضل بالسعر الأنسب، وتؤمّن بالتالي المصلحة العامة للدولة. اضافة لكل ذلك فان الشراكة مع القطاع الخاص من المفترض ان تطبق وفقا للقانون رقم 48/2017 الذي ينظم هذه العملية، وقد فرض في مادّته الثانية ان تخضع كل عمليّات الشراكة في قطاع الكهرباء لاحكامه وهذا ما لم تأخذ به الحكومة ايضا.
ان التعاطي في ملفّ الكهرباء، يقدّم نموذجاً للخارج عن كيفية مقاربة لبنان لأزمته الماليّة التي يتخبط بها، وهي مقاربة لا تبدو انّها تقدم حلولا عمليّة وسريعة وانما نماذج متكرّرة للمشاكل والصعوبات الماليّة والقانونيّة التي عرفها لبنان عند انشاء معمل جديد لانتاج الكهرباء في دير عمار وهي صعوبات ما زالت قائمة لتاريخه.
المحامية كرستينا ابي حيدر
خبيرة في شؤون الطاقة