اليوم، تتواجد تركيا عسكرياً في خمسة دول عربية هي: العراق، سوريا، قطر، ليبيا، الصومال والسودان.
تتعدّد الذرائع السياسية التركية لهذا التواجد في كلّ من تلك البلاد وتختلف أسبابه الموجبة وتوصيفاته وأساليبه. واضحٌ أنّ التمدد التركي، سواء الاقتصادي، التجاري، الثقافي او العسكري البري والبحري، لن يقف عند هذا الحدّ؛ وذلك لأهداف متشعبة. لكن الأحلام التركيّة أيضاً أبعد من "الثنائية" في علاقاتها الخارجية. نسلّط الضوء في هذه المقالة على مشهديّة جديدة تُرسَم في الخريطة الحديثة للشرق الأوسط تتمثل بما يلي: حلف عسكري عربي-تركي على غرار الناتو يتحضّر ليُعلَن فجائياً. إنّ المعطيات السياسية المستقاة من واقع الحال الدولي والإقليمي تدلّ على ما سبق بوضوح، وكذلك بعض المعلومات المؤكدة من مصادر دبلوماسية عربيّة عن الاهتمام التركي المستجد العلني وغير العلني حول مشاريع التعاون الدفاعي المشترك لا سيما مع قطر، الجزائر، تونس، المغرب، موريتانيا، اليمن في المرحلة القريبة؛ ولبنان، مصر، سوريا في المرحلة المقبلة.
كيف تهندس تركيا للحلف العسكري والنفوذ الإقليمي-الدولي؟
أولاً، خلق البيئة العربية الرسمية الحاضنة للمشروع التركي عبر عقد اتفاقيات حكومية عسكرية مع اكبر عدد من الدول العربية. ترمي تركيا من هذه الاتفاقيات إلى إنشاء قواعد عسكرية تركية تتطوّر تدريجيا؛ على غرار الاتفاق مع دولة قطر، الذي انتج قاعدة عسكرية تركية فيها باتت تضم اليوم اكثر من ٣٠٠٠ عنصر من الجيش التركي في موقع قطري استراتيجي مُطلّ على الخليج العربي.
ثانياً، تعزيز الثقة العربية الرسمية في القيادة العسكرية التركية عبر انتهاج الآتي:
أ-تقديم الدعم المالي والبنيوي للمنشآت الحيوية لتحقيق النمو المجتمعي وكسب الرضى الشعبي لأكبر شريحة من المواطنين المناصرين لتركيا.
ب-العمل على تنفيذ المشاريع بإشراف عسكري-استخباراتي كما في الصومال عبر بناء المطار، تأهيل الطرق وتنمية القطاع الصحّي والسياحي والتربوي.
ج-عقد اتفاقيات تعاون عسكرية قوامها تشييد قاعدة عسكرية تركية. في الصومال قدم اردوغان مدى ضرورة واستعداد جيشه لتأهيل الجيش الصومالي على محاربة الفصائل الارهابية المتواجدة في البلاد، فجرى افتتاح القاعدة العسكرية التركية في القارة الأفريقية من بوابة خليج عدن في العام ٢٠١٧
على غرار الصومال، عقد اردوغان اتفاقية مع الرئيس السوداني السابق عمر بشير حول اتخاذ جزيرة سواكن السودانية في البحر الاحمر مقرا تركيا لمشاريع بنيوية وقاعدة عسكرية للتأهيل والتدريب وتامين الامن الدفاعي كما اتُفق.
ثالثاً، فرض امر واقع التواجد العسكري التركي بالقوّة وسط قبول رأي عام دولي في المناطق الحدودية بذريعة حماية الامن القومي كما في شمال سوريا، وشمال العراق منذ التسعينيات، او بعيدا عن الحدود لذرائع اصوليّة تركية كما في ليبيا، او لأسباب مذهبيّة عبر الاستفادة من الانقسامات الحاصلة في الداخل العربي كما في فلسطين عبر حركة حماس. تعرف تركيا جيدا من تاريخها ان الأمر الواقع يستمر عقوداً وأكثر فيتحول الى نظام حكم جديد ونفوذ عسكري وقوة اقتصادية وسيطرة جيواستراتيجية .
اذاً، يسعى اردوغان و بتكتيك عسكري الى خلق ارضية حاضنة تفرض فرضًا مع الوقت أهدافه الكبرى بحكم الواقع. سواء كانت الحاضنة شعبية-عرقية او اقتصادية-تجارية او ثقافية-سياسية أو دينية-عقائدية وحتى عسكرية-لوجستية.
في سوريا مثلاً ان سقوط مشروع هيمنة "داعش" و"النصرة" على الميدان السوري أسقط الأرضية الحاضنة لأردوغان بالسيطرة العسكرية على الأراضي السوريّة. ولكن الأمر على خلاف ذلك في الشمال السوري حيث يحتل الجيش التركي أراضٍ سوريّة بذريعة محاربة الإرهاب على حدود بلاده حيث التمركز الكردي.
الحقيقة التي يتغاضى عن ذكرها العديد من زعماء الوطن العربي وغير العربي عن قصد أو إهمال، هو ان تركيا فعليا ووسط فوضى الشرق الأوسط حضّرت أرضيتها الحاضنة العربيّة لبسط سيطرة واسعة، أمّا المقاومة الشعبية الفاعلة التي تشكلت بوجهها هي المقاومة الكردية.
فعلياً، تفوقت تركيا على اسرائيل لجهة وسائلها في التعامل العسكري والسياسي مع الدول العربية؛ ما يجعل رئيس وزراء اسرائيل بنيامين نتانياهو يجري خلف زيارات اردوغان الرسمية ويتبعه ليرمّم مصالحه. بغض النظر عن مدى نجاح الرئيس التركي مستقبلًا في مشروعه أم لا، هو ينصب بلاده حامية العالم الإسلامي على عكس ما تنادي به اسرائيل من حاجتها لحماية وجودها. هنا يكمن بيت القصيد.
بالمحصلة، يستمرّ الرئيس التركي رجب الطيب اردوغان باستخدام عبارة "العالم العربي والإسلامي" في خطاباته حول سياسة بلاده الخارجية.
إنّ الانصهار التاريخي بين العرب والأتراك منذ عهد السلطنة العثمانية كان وما زال المنطلَق لدور تركيا-اردوغان المتنامي في الشرق الأوسط.
فعلياً، سقط في المرحلة الراهنة مشروع انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي وذلك تحت ورقة سوريا. لم يمرّ الدور التركي في الحرب السورية مرورًا مستسهلاً على الدول الأوروبيّة التي واجهت مخاطر ارهابية وتدفقاً غير مسبوق لنزوح غير شرعي باتجاهها. باتت قضية النازحين السوريين ورقة تهديد دائمة لاوروبا بيد الجانب التركي.
على الرغم من أن موقع تركيا الجغرافي الذي يربطها بالشرق والغرب يفرض على نظامها وضع سياسات خارجية متشعبة تتناسب مع دول جوارها المتعددين والمختلفين، يستمرّ الرئيس التركي في التشديد على أهميّة نفوذ بلاده في الشرق الأوسط حماية للعالم الإسلامي، عبر خلق تمدّد واسع لبلاده في العالم العربي، وسط تراخي بعض الدول العربيّة وتواطؤ غربي واضح مباشر او غير مباشر يصل حدّ شبه التخلي عن حلفاء استراتيجيين، مثلما فعلت الإدارة الاميركية مع الأكراد في سوريا بانسحابها وترك الساحة خالية امام تركيا .
اذاً، في الجانب العسكري من التمدد المتصاعد لتركيا في الشرق الأوسط والذي ترافق مع مجموعة خطط واتفاقيات إقليميّة اقتصاديّة وثقافيّة وتجارية وعسكرية مع أكثر من بلد او تنظيم، إنّ الناتو العربي-التركي ينتظر الاتي قبل تحقيق الانفجار الكبير:
-انتهاء جائحة كورونا للبدء تشغيل منظومة s400 الروسية رغم التصعيد والتحذير الاميركي بالعقوبات، ليعلن بعدها اردوغان دعوة بلاده لمؤتمر عربي-تركي للتباحث بتحالف عسكري لمواجهة الأخطار المهددة للعالم العربي الإسلامي من "أيادي الشرّ" كما يسمّيها. يبدو ان دولًا عربية ابدت استعدادها للقبول بالعرض وتسعى للرضى الاميركي. اسرائيل متخوفة ورافضة.
معلوم عن اردوغان أخطاءه الكثيرة في حساباته السياسية الدولية التي خسّرته الكثير. رهاناته في العراق وسوريا وأوروبا خير دليل. الرجل، وبعد سقوط مشروع الفوضى الخلاّقة والسيطرة العسكريّة الميدانيّة الكلّية خارج الحدود التركية، هو يلعب اليوم ورقة منظومة التحالف العسكري العربي-التركي من بوابة توازن القوى. بنفس الأسلوب الأخطبوطي للقواعد العسكرية، اردوغان يريده حلفاً تمهيدياً وصولًا للحلف العسكري الإسلامي الكبير بقيادة تركيا المتواجدة اليوم في ثلاثة عشر دولة إسلامية عربية وغير عربية.
هل ستمهّد روسيا وإيران لمشروع تركيا العسكري؟ ما هو الموقف الاميركي-الاسرائيلي من هذا الخطر؟ الجواب قد يكون في مكمنين؛ هل سيبقى اردوغان في الحكم أم انقلاب من نوع ما سيسقطه؟ هل سيمضي الرئيس التركي قدما في مشروعه غير طالب القرب ولا الرضى من احد بل منفذاً لأمر الواقع أم ينكفئ؟.
الواضح حتى كتابة هذه السطور هو أن العالم العربي المتهاون أمام أزمة وجودية بعنوان "عين لا ترى، قلب لا يوجع" فبات الواقع بلا أمر.