تتصدّر عبارة "الانتخابات" المصطلحات الأكثر استخداماً من جانب السياسيين هذه الأيام، باعتبارها "المَدخَل"، وفق ما يقولون، لأيّ حلّ للأزمات المتراكمة، سياسياً واقتصادياً ومعيشياً، ولأيّ تغييرٍ تصرّ عليه شريحة كبيرة من المجتمع، بعدما ضاقت ذرعاً بممارسات الطبقة الحاكمة منذ سنوات طويلة.
وإذا كان البعض يتحدّث عن هذه الانتخابات بصورةٍ عامّة، باعتبارها "الفرصة" التي تتيح للناخبين محاسبة السياسيين، فإنّ بعضاً آخر يذهب أبعد من ذلك بالمطالبة بانتخاباتٍ مبكرة تجري اليوم قبل الغد، كما يفعل مثلاً حزبا "القوات اللبنانية" و"الكتائب اللبنانية"، وحتى "تيار المستقبل"، وغيرهم من قوى المعارضة.
ولكن هل لبنان جاهزٌ فعلاً لمثل هذه الانتخابات، في ظلّ التحدّيات الكبرى المحدقة به، ولا سيما على المستوى الاقتصاديّ؟ وماذا لو جرت هذه الانتخابات اليوم، بمُعزَلٍ عن هذه الجاهزية وأبعادها؟ هل يمكن أن تفضي إلى "تغييرٍ جذريّ" كذلك الذي يتوق نحوه الكثير من اللبنانيين؟!.
مطلب "من الماضي"؟!
لا يمرّ مؤتمر صحافي أو تصريحٌ لرئيس حزب "القوات اللبنانية" سمير جعجع من دون أن يأتي فيه على ذكر الانتخابات النيابية، باعتبارها الحلّ الوحيد المُتاح للأزمات الحالية، سواء أتت مبكرة كما يتمنّى، أو في موعدها المفترض. ومثله يفعل رئيس حزب "الكتائب اللبنانية" سامي الجميل الذي كان سبّاقاً بتقديم مشروع قانون لتقصير ولاية مجلس النواب الحالي، وإجراء انتخابات نيابيّة مبكرة تؤدّي إلى ولادة برلمان جديد يمثّل الشعب اللبناني وتطلّعاته.
وتشكّل الانتخابات المبكرة مطلباً أيضاً لكثيرٍ من قوى وشرائح المجتمع المدنيّ، ممّن يعتقدون أنّ "التغيير" الذي ينشدونه، والذي بدأت "بشائره" بالظهور في "ثورة" السابع عشر من تشرين الأول، لا بدّ أن يمرّ، بشكلٍ حتميّ، عبر صناديق الاقتراع، باعتبارها الوسيلة الديمقراطيّة والنزيهة للإطاحة بالطبقة السياسية الحاليّة والإتيان بأخرى أكثر تمثيلاً للمجتمع اللبناني، بمختلف شرائحه وانتماءاته.
لكن، وبعيداً عن "الأمنيات" و"الطموحات"، وهي بمجملها مشروعة، يبقى الأكيد، برأي المتابعين، أنّ مثل هذه الانتخابات المبكرة باتت "من الماضي"، بل إنّها عملياً لم تعد مطروحة جدياً على النقاش، منذ ولادة حكومة حسّان دياب، وهو ما ترجمه أصلاً خطابه الأول بعد تشكيلها، والذي سُجّل فيه "تراجعه" عمّا قيل إنه "تعهّد" قطعه بالعمل لإجراء انتخابات نيابيّة، لصالح الحديث عن قانون انتخابيّ جديد، ليس خافياً على أحد أنّ الحكومة لم تخطُ أيّ خطوةٍ باتجاهه حتى اليوم، ولو من باب رفع العتب، وهو ما لم يرد أصلاً في خطاب "الإنجازات" الذي ألقاه دياب الأسبوع الماضي، والذي احتفى فيه بتحقيق معظم بنود البيان الوزاري للأيام المئة الأولى من عمر الحكومة.
ولعلّ التحديات التي يمرّ بها لبنان حالياً، والتي تتنازع سلّم "الأولويات"، تسهم في استبعاد خيار الانتخابات، باعتبار أنّ الظرف الحاليّ ليس مؤاتياً للدخول في حملات انتخابيّة من شأنها تأجيج الوضع، كما أنّ الاهتمام يجب أن ينصبّ على كيفية معالجة "الانهيار" الماليّ والاقتصاديّ الذي بات لبنان واقعاً في شركه، وهو ما يعني اللبنانيين اليوم قبل أيّ شيءٍ آخر، خصوصاً في ظلّ ارتفاع مستويات البطالة، والغلاء الفاحش في الأسعار. وإذا كان البعض يرى في هذه الأسباب مقوّمات "الثورة" الفعليّة، والتي لا تكون ترجمتها سوى بالانتخابات، فإنّ العامل "الصحّي" المتمثّل بتفشّي وباء "كورونا" يحسم الجدل، باعتبار أنّ انتخاباتٍ نقابيّة أرجئت بسببه، فكيف بالحريّ إذا كنّا نتحدّث عن انتخاباتٍ عامّة على مستوى الوطن، ولو أنّ دولاً أخرى أجرت انتخاباتها في عزّ "كورونا".
لا تغيير ولا من يحزنون؟!
حين يتحدّث المدافعون عن مطلب إجراء الانتخابات اليوم قبل الغد، يقولون إنّ المطلوب انتخابات ينبثق عنها مجلس نيابيّ جديد لا يشبه سابقه في الشكل والمضمون، بل يمثّل الشعب اللبنانيّ بحقّ، ولا يجسّد بالتالي مصالح ومحاصصات المنظومة السياسية التي تسبّبت سياساتها في إيصال لبنان إلى الأزمات المتشعّبة التي يتخبّط بها اليوم.
لكن، وبمُعزَل عن دوافع "استبعاد" إجراء أيّ انتخابات في ظلّ الظروف الحالية، هل يبدو مثل هذا الطموح "واقعياً" إذا ما جرت الانتخابات اليوم فعلاً؟ هل يمكن أن تفضي إلى مثل هذا البرلمان الذي يحلم به كثيرون، وبينهم للمفارقة من سبق أن "بايع" الطبقة السياسية الحالية في الانتخابات الأخيرة، وقد يجدّد "البيعة" في أيّ انتخاباتٍ مقبلة؟.
قد تكون الإجابة بالنفي، انطلاقاً من المعطيات الواقعيّة، وما بيّنته بعض استطلاعات الرأي التي تمّ الكشف عنها أخيراً، والتي أظهرت أنّ أكثرية الشعب اللبناني ستعيد انتخاب القوى السياسية التقليديّة في أيّ استحقاقٍ انتخابيّ جديد، وكذلك انطلاقاً من المعطيات الحسية على الأرض، حين يستثني معظم المطالبين بالتغيير، والآتين من "صلب" الأحزاب السياسية، "زعماءهم" من الشعارات المرفوعة، ولا سيما "كلن يعني كلن". ولا تبدو نافرة في هذا السياق الأسباب "التخفيفية" التي يغدقها الجميع على "الزعيم" عند الحديث عن "الفساد"، باعتبار أنّ ما ارتكبه هذا "الزعيم"، والذي يختلف من بيئةٍ إلى أخرى، ليس شيئاً مقارنةً بما فعله الآخرون، أو أنه اكتفى بـ"غضّ النظر" لأسبابٍ تكتيكيّة، لا يعترف بها أصلاً علم الجريمة.
لكن، أبعد من المعطيات الواقعيّة، ثمّة معطيات علميّة موضوعيّة تؤكد أنّ إجراء انتخابات اليوم لن يفضي سوى إلى "استنساخ" المجلس النيابي الحاليّ، بآخر يشبهه في الشكل والمضمون، من دون استبعاد نجاح القوى التغييريّة، التي لمع نجمها في الأشهر الأخيرة، من "الخرق" في بعض الأماكن، لكن من دون أن يكون لديها القدرة على قلب المعادلة لصالحها. ولا يعود ذلك إلى ضعفٍ تنظيميّ لدى هذه القوى التي لم تفرز حتى اليوم قيادة واضحة تتحدّث باسمها، ولكن قبل ذلك، إلى القانون الانتخابيّ الحاليّ، الذي يبدو أكثر من نافرٍ تمسّك بعض القوى السياسية التي تدّعي النطق باسم "الثورة"، به مع أنّ القاصي والداني يعلم أنّ هذا القانون الذي يسمّى "عصرياً"، والمليء بالثغرات التي تفرغه من مضمونه، "فُصّل" على مقاس القوى السياسية التقليدية نفسها، بحيث "تضمن" احتفاظها بمقاعدها تحت أيّ ظرف.
بند أول!
ثمّة "سيناريو" يتناقله البعض، ليس لتقصير ولاية مجلس النواب، كما يطمح البعض، بل لتمديدها، أسوةً بما حصل مع البرلمان السابق الذي "تنعّم" بولايتين وأكثر.
يقول البعض إنّ العامل الصحّي المتمثّل بـ"كورونا" قد يمثّل "الظرف القاهر" المثاليّ لتبرير مثل هذا التمديد، بعدما كانت "الظروف القاهرة" التي اعتُمِدت سابقاً، مادة سخرية، لكونها لم تحمل شيئاً من "القهر".
أما في حال عودة الحياة إلى طبيعتها قبل موعد الانتخابات، فيمكن أن يُصار إلى تمديدٍ "تقنيّ" تحت عنوان تغيير قانون الانتخابات، خصوصاً إذا ما لجأ البعض إلى "الثورة" ضدّ القانون الحاليّ، والذي لا يبدو مرضياً للقوى "التغييريّة".
انطلاقاً ممّا سبق، قد تكون الأولوية فرض قانون الانتخابات بنداً أول على "الأجندة" السياسية هذه الأيام، تمهيداً لإجراء الانتخابات في موعدها على الأقلّ، وذلك يتطلب الضغط على الحكومة حتى لا تتذرّع بالأوضاع الماليّة والاقتصاديّة لتجاهل "تعهّداتها" على هذا الصعيد، كما يحصل بعد انقضاء "مهلة السماح" التي منحتها لنفسها...