منذ ان وصل دونالد ترامب الى سدّة الرئاسة الاميركية، تغيّرت الكثير من المفاهيم والمعطيات والعلاقات بين اقوى دولة في العالم وبقية الدول، اكانت صديقة ام حليفة او عدوة. حتى الاميركيين انفسهم، لا يزالون منقسمين في رأيهم حول تقييم اداء رئيسهم الحالي الذي نجح في الشقّ الاقتصادي والمالي (قبل ان يطيح وباء كورونا بكل انجازاته)، فيما تكثر علامات الاستفهام حول مواقفه السياسية والاجتماعية وفشله في مواجهة الوباء العالمي الذي "سرح ومرح" في الولايات المتحدة الاميركية. وعلى ابواب الانتخابات الرئاسية، اختار ترامب معركة جديدة لزيادة الشرخ بين الاميركيين وتوسيع الهوّة التي تفصله عن عدد كبير منهم، بتسريب امكان عودة التجارب النووية الى الحياة، والذي ترافق مع عدد من الخطوات العملية من انسحابات من اتفاقات كثيرة كان هدفها حصر الاسلحة النووية ومنع انتشارها والحد من خطورتها.
كان العالم مطمئناً ان "جنون ترامب" لم يصل الى الامور العسكرية، وان شبح الحرب العالمية الثالثة كان بعيداً ولا خوف منه، ولكن القلق بدأ يزداد اثر انقلاب هذا المفهوم بفعل تصرفات الرئيس الاميركي. ومن يتبع "المسار النووي" المعتمد من ترامب منذ توليه الرئاسة وحتى اليوم، لا يجد ما يطمئن البال، فهو كان من كبار المؤيدين لاعتماد سياسة صارمة من اجل خفض الخطر النووي، وقال ان كل ما قام به مع كوريا الشمالية وزعيمها كيم يونغ اون، وانسحابه من الاتفاق النووي مع ايران، انما اتى ضمن استراتيجية وضعها للضغط على البلدين واجبارهما على اعتماد مقاربة جديدة تنهي الخطر النووي الذي يلوحان به. ولكن، في نظرة واقعية وفعلية، نجد ان كل الجهود التي قامت بها الادارة الاميركية الحالية لم تؤت ثمارها، لا بل ادت الى نتائج عكسية حيث ازدهرت سياسة التجارب النووية لكوريا الشمالية من جهة، فيما رفعت ايران من منسوب انتاج اليورانيوم بعد انهيار الاتفاق، ووصلت الى حدود غير مسبوقة من نسب الانتاج ما كانت لتصل اليها لو كان الرئيس السابق باراك اوباما لا يزال في موقع المسؤولية.
خسر ترامب رهانين من اصل اثنين في الموضوع النووي، وانسحابه من الاتفاقات التي ترعى ضبط الانفلات في هذا الشأن، يدل على ان رهانه المقبل خاسر ايضاً، لان قيام الولايات المتحدة باجراء تجارب نووية للمرة الاولى منذ العام 1992، لن يجعل البقية يعيدون حساباتهم في امتلاك السلاح النووي لحماية انفسهم، بل سيدفعهم الى تعزيز ترسانتهم وتكثيف جهودهم لما يعتبرون انه "حماية لهم" من اي "مغامرة" قد يخوضها ترامب في هذا المجال، والتي لا مكان فيها للتأخر او المماطلة. هكذا، وبغفلة من الزمن، اطاح ترامب بكل ما قام به الرؤساء الذين سبقوه من ايام الراحل رونالد ريغان الى عهد باراك اوباما، ورمى بكل جهودهم في مكب النفايات النووية، والاخطر انه اشعل فتيل التسلح النووي من جديد بعد ان عرف ركوداً مهماً في العقود الماضية من الزمن. قد يرى الرئيس الاميركي ان هذا الموضوع سيعيد رفع شعبيته التي هبطت بفعل ممارسته الناقصة لمواجهة كورونا، ولكن قد يمرّ وقت غير قصير قبل ان يدرك انه وصل بالفعل الى حدود "الجنون النووي"، الذي من شأنه ان يجعل العالم بأجمعه يدفع الثمن، فماذا سيفيد ترامب اذا ربح ولاية رئاسية ثانية وخسر بلاده ووضع العالم على حافة الحرب العالمية الثالثة؟.
لا يزال الامر بيد الاميركيين انفسهم ليدركوا انه يمكنهم من خلال قرارهم في الانتخابات، اجراء تغيير جذري قد يجنّب بلدهم والعالم مواجهة غير معروفة النتائج، وانه بات من الواجب تخفيف المسؤولين اصحاب مبدأ "قلة التفكير والادراك"، وان الامر لم يعد مجرد مزحة او فقدان سيطرة على موضوع ما من السهل تعويضه، بل هناك مصير شعوب ودول بأكملها، فهل من يسمع؟.