لا تزال التشكيلات القضائية تتخبّط في الرمال المتحرّكة التي حالت حتى الآن دون إقرارها، على الرغم من أهميتها وحيويتها في هذه المرحلة التي تتطلب وجود قضاء قوي ومستقلّ، يوحي بالثقة والاطمئنان.
لم تعد التشكيلات القضائية مجرد أمر اجرائي او روتيني، بل هي تحمل اكثر من دلالة ورسالة في هذا التوقيت، كونها تتصلّ من جهة بمعركة مكافحة الفساد، التي تتطلّب قضاة نزيهين وشجعاناً، وترتبط من جهة أخرى بالعلاقة مع المجتمع الدولي، الذي يتعامل مع تلك التشكيلات في اعتبارها مؤشراً إلى اتجاه الدولة نحو تطبيق الإصلاحات او الاستمرار في التهرّب منها.
من هنا، تخضع التشكيلات المفترضة الى رصد داخلي وخارجي على حد سواء، فيما لا تزال التجاذبات والاجتهادات تمنع ولادتها وتطيل أمد مخاضها العسير، على حساب انتظام العدالة وعمل السلطة القضائية.
ويبدو انّ التشكيلات تاهت في خضم الدهاليز اللبنانية المعقّدة، وسط مقاربات متباينة لها من قِبل الجهات المعنية بها، حتى كادت الطبخة تحترق على وقع التشابك بين الطهاة واشتباكهم.
وأمام الاستعصاء الذي يواجه إقرار التشكيلات في صيغتها الحالية، هناك من يقترح ترحيلها الى وقت آخر، وتحديداً الى ما بعد تخريج 40 قاضياً من معهد الدروس القضائية في حزيران المقبل، بحيث تكون هذه المناسبة فرصة أمام مجلس القضاء الأعلى لمراجعة التشكيلات وإعادة النظر فيها ربطاً، بالتعيينات الجديدة التي تفرضها الدفعة الجديدة من خريجي المعهد.
وفي الانتظار، يتهم البعض رئيس الجمهورية ميشال عون بأنّه المسؤول الأول عن تعطيل التشكيلات بعدما وضعها، في رأيهم، قيد الأسر داخل قصر بعبدا اعتراضاً على مضمونها، ما يشكّل في نظر أصحاب هذا الإتهام تقويضاً لاستقلالية القضاء، معتبرين انّ على عون اعتماد التشكيلات كما نسجها مجلس القضاء الأعلى، حتى لو كانت لديه تحفظات او اعتراضات عليها.
الّا انّ اوساطاً لصيقة برئيس الجمهورية، تستغرب محاولة تحميله مسؤولية التأخير في إقرار التشكيلات، معتبرة انّ في ذلك تضليلاً مقصوداً يرمي الى تحوير الحقائق وتشويهها.
وتلفت الاوساط الرئاسية، الى انّ مرسوم التشكيلات لم يصل بعد الى قصر بعبدا كجسم واحد وكل لا يتجزأ، وفق ما تقتضي الأصول حتى يبنى على الشيء مقتضاه، «وبالتالي فإنّ رئيس الجمهورية لم يقل كلمته النهائية فيه ولم يصل بعد الى مرحلة التوقيع عليه او عدمه».
وبينما تُصنّف وزيرة العدل ماري كلود نجم في خانة الوزراء المحسوبين على العهد، تعتبر الاوساط القريبة من عون، انّ مبادرة وزيرة العدل الى تجزئة المرسوم والفصل بين تشكيلات القضاء العدلي وتلك المتعلقة بالقضاء العسكري، هي هرطقة قانونية لا يمكن لرئيس الجمهورية القبول بها، «ولذلك فهو غير معني بأي تجزئة من هذا النوع، وينتظر إعادة توحيد المرسوم واحالته متكاملاً اليه، ليتخذ القرار المناسب في شأنه، بعدما يكون المجلس العدلي قد حدّد موقفه من ملاحظات وزيرة الدفاع زينة عكر على تشكيلات القضاء العسكري».
واذا كان قصر بعبدا يوحي انّ هذا الملف لم يغادر حتى الآن طور «الدفوع الشكلية»، غير انّ الاوساط الرئاسية لا تخفي في الوقت نفسه وجود ملاحظات لدى عون على جوانب عدة في صلب مشروع التشكيلات، تتعلق على نحو اساسي بالمحاصصة السياسية وغياب وحدة المعايير، تبعاً لرأي وزيرة العدل.
وفي هذا السياق، تنبّه الاوساط الى انّ التشكيلات المقترحة من قِبل مجلس القضاء الأعلى، تنطوي في جانب منها على محاصصة بين قوى سياسية عدة، مشدّدة على أنّ عون يرفض المشاركة في هذا البازار، ولا يحاول انتزاع حصّة مسيحية كما يصور معارضوه، بل يريد استخدام صلاحياته لمعالجة مكامن الخلل.
وتحذّر الاوساط أيضاً من خطورة تجاهل مبدأ المعيار الواحد في المناقلات لحساب استنسابية غير مبررة، من شأنها ان تسيء بالدرجة الأولى إلى مبدأ المساواة في التعامل مع القضاة، لافتة إلى أنّه كان من الأفضل أن تتمّ استشارة رئيس الجمهورية في خصوص بعض المواقع القضائية الحساسة التي ترتبط بمكافحة الفساد.
اما القول بأنّ طريقة تصرّف عون تشكّل انتقاصاً من دور مجلس القضاء الأعلى واستقلاليته، فإنّ اوساط بعبدا ترّد عليه بالتأكيد انّ عون حريص على استقلالية القضاء وهيبته معاً، معتبرة انّه لا يجوز الفصل بين الأمرين، «بل هما متكاملان ولا ينفصل احدهما عن الآخر»، متسائلة: «أين هيبة القضاء مما فعله النائب هادي حبيش الذي تهجّم على القاضية غادة عون وهدّدها في مكتبها؟».
وتنفي الاوساط ان يكون رئيس الجمهورية قد خاض في لعبة الاسماء وفَرض حصانة على اسم القاضية عون التي «ليست قاضية القصر حُكماً»، ولكنها تتساءل عمّا اذا كان يجوز أن توحي التشكيلات بأنّ هناك اقتصاصاً من تلك القاضية وتجنياً عليها، عقب تعرّض حبيش لها وخوضها في عدد من ملفات الفساد، بدل ان يتمّ تقدير اندفاعتها وتعزيز دورها عبر المناقلات؟
وتشدّد الاوساط الرئاسية على أّن من يريد حقاً تحصين استقلالية القضاء مُطالَب بحماية هيبته وعدم السماح بأي انتهاك لها.
وتؤكّد الاوساط انّ عون مهتم بإقرار التشكيلات امس قبل اليوم، وهو يترقب ان تعود اليه من خلال مرسوم غير مجزأ او مبعثر ليغوص في أساسه وجوهره، وعندها سيحرص على أن تكون تلك التشكيلات بعيدة من المحاصصة والانتقام ومنسجمة مع الاصول ووحدة المعايير، «اما اذا لم تكن كذلك، فإنّ رئيس الجمهورية لن يفعل ما يخالف قناعاته، خصوصاً انّ صلاحيته في التوقيع على المرسوم العادي ليست مقيّدة بمهلة زمنية او بأي اعتبارات اخرى، وبالتالي لن يسمح بتقييد هذه الصلاحية، التي تمنحه حق الاستنساب والتقدير تبعاً لمقتضيات المصلحة العامة، وإلاّ ماذا يبقى من رئاسة الجمهورية إن كانوا سيصادرون واحدة من آخر صلاحياتها الحقيقية والمكرّسة في الدستور بوضوح لا يتحمّل التأويل والاجتهاد؟