بما يشبه "المسرحية الاستعراضية"، سقط قانون العفو العام في الجلسة التشريعية الأخيرة لمجلس النواب، بعدما "أسقِط" التوافق المزعوم حوله، فوضعه رئيس مجلس النواب جانباً، ريثما "تهبط الرحمة" على ممثلي الشعب، وفق تعبيره، وهو ما لم يتمّ.
سريعاً، أخذ "أبطال" المسرحية أدوارهم، ولعبوها بإتقان، ولو بضعفٍ إخراجيّ واضح. رئيس تيار "المستقبل" سعد الحريري انسحب من الجلسة، فلحقه النائب فيصل كرامي، في خطوةٍ كان رئيس تكتّل "لبنان القوي" جبران باسيل "السبّاق" في التلويح بها، قبل أن "يردعه" بري.
ولم يكن باقي النواب من سائر الكتل أفضل حالاً، هم الذين تناوبوا منذ الصباح على "المزايدات" عبر وسائل الإعلام، وسط شعاراتٍ "شعبويّة" أخذت مداها، بل فتحت المجال للحديث عن "مقايضاتٍ" بين المتّهمين بـ "الإرهاب"، وأولئك الذين تنوّعت تسميتهم بين "عملاء" و"فارين" و"مُبعَدين"...
في الشكل قبل المضمون!
لم يكن مقدَّراً لقانون العفو العام أن يمرّ في مجلس النواب، بالصيغة المبدئية له، أو تلك الملحقة به، والتي هبطت في ربع الساعة الأخير من حيث لا يدري أحد.
مشكلة القانون تكمن أولاً في شكله قبل مضمونه، برأي الكثير من الخبراء القانونيّين والدستوريّين، باعتبار أنّه عامّ جداً وغامض وملتبس، ما يجعله عرضة للكثير من "الأفخاخ" التي تحفل بها بنوده، خصوصاً تلك التي تُضاف إليه، أو تُعدَّل، من دون سابق تصوّر وتصميم، وكان من الأفضل أن يُصار إلى تحديد "الشرائح" المعفو عنها في عنوان القانون، حتى يكون "الجوهر" المبتغى منه واضحاً ومفهوماً، بالحدّ الأدنى.
يقول بعض هؤلاء الخبراء إنّ القانون بدا "عصياً" على الاستيعاب الكامل من قبلهم، وهم العارفون بكواليس ودهاليز الدستور والقوانين، فكيف بالحريّ بالمواطنين العاديين، الذين لم يدركوا حتى الآن "المغزى" الحقيقيّ منه، ومن هم المشمولون فعلياً به، خصوصاً في ظلّ الكمّ الهائل من "الإشاعات" التي رافقت محطّاته، ووصلت إلى حدّ وضع أسماء "إرهابية" شهيرة مثلاً ضمن لائحة "المعفوّ عنهم".
وإذا كان كثيرون يعتبرون أنّ هذا "الغموض" أتى نتيجة طبيعية للتباينات في مقاربة القانون، من قبل مختلف الفرقاء، فإنّ ذلك أدّى إلى بروز ظاهرة "مقايضة" و"ابتزاز" لا تمتّ إلى المبادئ القانونية بصلة، وربما تكون أسقطته "إلى الأبد"، وهو ما تجلّى بوضوح، وربما بوقاحة، في تعديلات اللحظات الأخيرة التي حاول البعض إسقاطها عليه. ولعلّ الاجتماعات الجانبيّة التي شهدتها أروقة مجلس النواب تشكّل دليلاً كافياً على مناخٍ "غير صحّي" أحاط بالقانون، وكأنّ الجميع كان يبحث عن "إخراج" يتيح إقراره، من دون تحمّل مسؤوليته.
كلٌّ يريده "على مقاسه"؟!
ربما يكمن بيت القصيد من كلّ "مسرحية" العفو" التي شهدها اللبنانيون بأمّ العين، في هذه النقطة بالتحديد: إقرار القانون، من دون تحمّل مسؤوليّته. وقد تكون الاحتجاجات الشعبية التي أحاطت بالجلسة الشعبية رفضاً لخروج قانون العفو، أسهمت في "فرملته"، وربما في "انقلاب" بعض الكتل السياسية على مواقفها، بعدما شكّلت لجاناً فرعيّة وعقدت اجتماعات ماراثونية على امتداد الأيام الماضية، قبل أن يخرج منها اليوم من يحذف هذا الملفّ من "أولويات المرحلة".
في المبدأ، يمكن القول إنّ جميع الفرقاء أرادوا إقرار القانون، ولو أنّ كلاً منهم كان يريده "مفصّلاً" على قياسه، أو قياس بيئته الحاضنة بشكلٍ أو بآخر. فتيار "المستقبل" مثلاً، الذي كان أكثر "الممتعضين" من تنحية القانون جانباً، ما دفع رئيسه إلى الانسحاب من الجلسة اعتراضاً، والتلويح بخطواتٍ تصعيديّة أخرى، قد يكون من أكثر "المتحمّسين" للقانون، لصلته بملفات الإسلاميّين، الذين يقول "المستقبليّون" إنّ عدداً كبيراً منهم لا يزالون منذ سنوات موقوفين ظلماً، وبعضهم من دون محاكمات، ولو "ألصِقت" بهم تهم "الإرهاب" المُعلّبة، على حد ما يقولون.
وإذا كان "المستقبل" بانسحابه واعتراضه، أراد إيصال رسالة إلى جمهوره بأنّه يفعل كلّ ما في وسعه لإنجاز هذا القانون، الذي لطالما شكّل "عصب" حملاته الانتخابيّة، وهو يدرك أنّ الوصول إلى استحقاقٍ انتخابيّ جديد من دون إقرار هذا القانون من شأنه أن ينعكس عليه سلباً، فإنّ ثنائيّ "حزب الله" و"حركة أمل" يتلاقى معه في "الحماسة" لإقرار القانون، الذي يشمل بـ"رحمته" الكثير من أبناء البقاع، سواء منهم الموقوفون أو المطلوبون، ولا سيما بتهمٍ لها علاقة بتجارة المخدرات، علماً أنّ خشية "المستقبل" من انقلاب أهله عليه تجد "ترجمتها" لدى الثنائيّ أيضاً، الذي يعتقد أنّ "البقاعيّين" سئموا من الاستماع إلى الوعود.
تبقى الأحزاب المسيحيّة التي تجد ضالتها في القانون في البند الخاص بمن تسمّيهم "المُبعَدين إلى إسرائيل"، ويصرّ البعض الآخر على تصنيفهم بـ"العملاء"، وهو الملفّ الذي يشكّل أولوية لمعظم هذه القوى، بدليل إصرار "التيار الوطني الحر" مثلاً على تضمينه في سياق ورقة تفاهمه مع "حزب الله"، ولو بقي هذا البند حبراً على ورق. ومع أنّ حديثاً عن "تنازلاتٍ" و"مقايضاتٍ" أوحى بإمكان الوصول إلى "توافقٍ" في نهاية المطاف، فإنّ هذه الأحزاب وجدت نفسها في موقفٍ "محرج"، خصوصاً في ضوء لعبة "الشعبويّة" التي دخلت على الخطّ، واعتبرت كلّ النواب الموافقين على مثل هذا القانون، "شركاء" في الجرائم المرتكَبة ضدّ الجيش اللبناني وعناصره وضباطه، وهو ما أعاد الأمور إلى نقطة الصفر في مكانٍ ما.
فرضية أكثر من واردة!
منذ بدأ الحديث عن قانون العفو المثير للجدل منذ ما قبل الانتخابات النيابية الأخيرة، قبل أن يتعزّز تزامناً مع الاحتجاجات الشعبيّة، ويرد ضمن ورقة "الإصلاحات" الشهيرة التي قدّمها رئيس الحكومة السابق سعد الحريري قبيل تقديم استقالته، تبدو الصورة "واضحة" للبنانيين بأنّه بمثابة "رشوة انتخابية"، لا أكثر ولا أقلّ.
فتماماً كما شكّل قانون "العفو" صلب الحملات الانتخابية لكثير من القوى السياسية، التي لم تتردّد في وضعه في "صدارة" برامجها، في محاولةٍ لضمان عدم انقلاب جماهيرها عليها، تحوّل هذا القانون إلى "حصانة" في وجه الاحتجاجات، على اعتبار أنّ "تهدئة" الغضب الشعبيّ ستفضي إلى إقراره فوراً، وهو ما دفع إلى تضمينه ضمن جدول أعمال الجلسة النيابية الأولى بعد الاحتجاجات، والتي لم يُكتَب لها أن تبصر النور.
لكن إذا كان كلّ فريق يريد هذا القانون "على مقاسه"، وطالما أنّ مثل هذا الأمر غير مُتاح في الظروف الحاليّة، وفي ظلّ التعقيدات المعروفة، سياسياً وطائفياً، فإنّ فرضية "التوافق" على مَخرَج "الإسقاط" قد لا تكون مستبعَدة، انطلاقاً من المبدأ نفسه، وهو أنّ "الكلّ يريده ولا أحد يجرؤ على تحمّله"، وهو مبدأ لا يبدو أنّ كلّ "الاستعراضات"، مهما بلغت قيمتها، ستنجح في صرف الأنظار عنه...